راهن العالم على عقوبات إقتصادية قاسية لتركيع أحمدي نجاد، لكن إيران تمكنت من تجاوز بعض مفاعيل هذه العقوبات، ولو كبدتها خسائر اقتصادية فادحة. واليوم، يقف العالم بين خيارين، التسليم بإيران نووية أو خوض غمار حرب إقليمية لا تحمد عقباها.



بيروت: لا مفرّ من الاعتراف بالأثر السلبي الكبير الذي تركته العقوبات الدولية على إيران، المفروض عليها غربيًا بسبب تمسكها ببرنامجها النووي، وإصرارها على الاستمرار في تخصيب الأورانيوم. فقد خسر الريال الإيراني نحو 50 بالمئة من قيمته الشرائية، وارتفع التضخم إلى 27 بالمئة، بحسب تقرير صادر عن المركز الدولي لأبحاث التطوير في لندن، إلا أن ذلك لم يثنِ القيادة الاسلامية في إيران عن الاستمرار في محاولة القفز فوق هذه العقوبات التي تعد الأقسى، من دون تقديم أي تنازل في الملف النووي.

نفط انتخابي

ضيقت العقوبات الغربية الخناق على الصادرات النفطية الإيرانية، فخفضتها نحو 40 بالمئة، ما صعّب على إيران مهمة تحصيل زهاء 400 مليار دولار تحتاجها إلى تطوير قطاع الطاقة. فهي تنتهج سياسة مدروسة تخولها تطوير صناعاتها البتروكيميائية، خصوصًا تلك التي تنتج مشتقات نفطية، لأن السوق المحلية الإيرانية تستهلك نحو 80 مليون ليتر من النفط
تستورد منها 37 مليون ليتر. كما تبذل القيادة الايرانية قصارى جهودها لتنتج من النفط ما يعوضها الكمية التي تستوردها.

في محاولة لزيادة الواردات، خفضت الحكومة الإيرانية ثمن النفط 45 بالمئة، تزامنًا مع تراجع قيمة الريال، لكن النتيجة الوحيدة لهذا الخفض كان تضاعف نسبة النفط المهرب، بسبب الفارق الكبير بين سعره في إيران وأسعاره في الدول المجاورة. فقد زادت كمية النفط المهرب لتركيا إلى ستة ملايين ليتر من الديزل ومليوني ليتر من البنزين يوميًا. وهذا ما تقف الحكومة عاجزة حياله، إذ لا تستطيع إعادة أسعار النفط إلى مستوياته العالية السابقة، بسبب التضخم.

وأكد تقرير المركز الدولي أن حكومة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد تفكر جديًا في رفع أسعار المشتقات النفطية، لكنها تؤخر اتخاذ هذا القرار، لاستخدامه ورقة انتخابية في الانتخابات الرئاسية القادمة.

صعوبات كبيرة

تواجه إيران صعوبات جمة في تمويل مشاريع طاقة تسهم في تعويض التراجع في الواردات. لذا، تسعى لجذب الاستثمارات، وخصوصًا من دول جرى استثناؤها من العقوبات الدولية. فالاقتصاد الإيراني يخسر 45 مليار دولار سنويًا، كما أعلن المصرف المركزي الإيراني بيع أصول خاصة بوزارة النفط، قيمتها عشرة مليارات دولار، لتمويل تطوير حقول بارس على الخليج.

ويقول التقرير نفسه إن إيران بدأت تزيد حجم صادراتها غير النفطية إلى أكثر من 50 دولة، بينها دول أوروبية. وقد زادت هذه الصادرات نحو 8 بالمئة في العام 2012، لتصل إلى 32 مليار دولار.

كما بادرت إلى تسخير الاستيراد لدعم التصنيع والانتاج وليس الاستهلاك، خصوصًا أن هدف العقوبات الغربية القاسية كان وقف صناعة السيارات، التي انخفضت 40 بالمئة مشردة نحو 500 ألف عامل، ورفع نسبة التضخم وأسعار العقارات ومواد البناء، واستنزاف الاحتياطي من العملات الأجنبية في أرصدة المركزي الإيراني.

تلاعب بالعقوبات

قسوة هذه العقوبات لم تثن الحكومة الإيرانية عن اتخاذ الاجراءات الكفيلة بالحد من آثارها السلبية. فقد أوقفت استيراد الصلب مشجعة على الانتاج المحلي، كما حضت على إنتاج دقيق الألومينيوم محليًا، وجهزت السيارات المصنوعة في إيران بمحركات تعمل على الوقود وعلى الغاز الطبيعي المضغوط، واتفقت مع العراق على بيعها 30 ألف سيارة إيرانية سنويًا. وفي العام 2010، بنت شركة صناعة السيارات الإيرانية مصنعًا في العراق، بالتعاون مع وزارة التجارة العراقية، ما ساهم في توسيع رقعة تسويق السيارات الإيرانية في كل أنحاء العراق، وفي مضاعفة الإيرانيين أرباحهم.

في القطاع المصرفي، يقول تقرير المركز الدولي لأبحاث التطوير إن إيران تتلاعب بنظام تحويل الأموال المصرفي، من خلال استخدام مصارف وسيطة، تلعب دور الطرف الثالث في عقود تجارية، ومكاتب صرافة كبيرة تمثلها شركات تجارية صغيرة في الشرق الأوسط. فيتم دفع المال من خلال هذه المصارف وهؤلاء الصرافين بالعملات المحلية في دولها، لتصدر إلى إيران بالريال الإيراني أو بالدرهم الإماراتي، اللتين تعاملان معاملة العملات الصعبة.

ثغرات الصراعات

ثمة عوامل مختلفة، بحسب التقرير، تلعب في صالح إيران. فمنطقة اليورو تعاني مصاعب كثيرة، وارتفاع تكلفة إنتاج الطاقة، وتزايد الطلب على النفط، تؤزم حال الاقتصادات الأوروبية، خصوصًا بعدما أمسكت روسيا بدفة سوق الغاز العالمية. ولهذا، عرضت إيران على أوروبا في أكثر من مناسبة أن تزوّدها بالغاز بأسعار منافسة. وهذا ما دفع بالصين إلى عقد اتفاقيات طويلة الأمد مع وزارة النفط الإيرانية، لتشتري منها نفطًا خامًا، ولتفوز بعقود تطوير الحقول الإيرانية.

وهكذا، يلفت التقرير إلى أن إيران تستفيد من ثغرات توفرها لها الصراعات الإقليمية، تنفذ منها الشركات لتحصل على تمويل يعينها في تنفيذ مشاريع البنى التحتية، التي ترفد الانتاج. فقد انتهزت فرصة النزاع بين أرمينيا وجاراتها أذربيجان وجورجيا وتركيا، لتعقد اتفاقات مع أرمينيا تحصل بمقتضاها على الكهرباء، إلى جانب بناء السكة الحديد وأنابيب الغاز، التي يمكن أن تصل إلى أوروبا لاحقًا.

كفة العسكري راجحة

من الناحية السياسية، يقول التقرير إن الولايات المتحدة تشدد العقوبات أكثر فأكثر، مراهنةً على تحرك الشارع الإيراني في وجه القيادة، لاستبدالها من طريق الانتخابات أو الحراك التغييري، الذي قد تنتقل عدواه من الدول العربية القريبة، التي قامت فيها ثورات غيّرت معالم بعض الأنظمة في المنطقة.

لكن ذلك لا يحظى بالكثير من التفاؤل، وتبقى الكفة راجحة لصالح العمل العسكري، الذي طالما لوّحت به إسرائيل لضرب المنشآت النووية الإيرانية، لكنها أجلت التنفيذ ريثما يستنفذ الرئيس الأميركي باراك أوباما حلوله السلمية التفاوضية، التي يطرحها على وقع أكثر العقوبات قسوة.

وليست إسرائيل وحدها الطرف الذي ينتحي ناحية الحرب، فإيران نفسها تعد العدة للرد على أي تحرك غربي أو أميركي أو إسرائيلي، بنشرها قطعًا من أسطولها الرابع والعشرين في خليج عدن، وسن المشرعين الإيرانيين قوانين تسمح بإغلاق مضيق هرمز بوجه ناقلات النفط المتجهة إلى الدول التي فرضت العقوبات الاقتصادية على إيران.

لا ثالث لهما

ويختم التقرير أن العالم اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما، إذا ما فشلت المفاوضات بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد في التوصل إلى حل للملف النووي الإيراني. إما أن يسلم بإيران نووية قوية أو الضغط على الزر العسكري الذي لن تنجو المنطقة كلها من تداعياته. الخيار الأول يعني فوز إيران في مباراة عض الأصابع، والخروج من المنافسة طرقًا نوويًا وقوة إقليمية، مثلها مثل إسرائيل، مع ما يعني ذلك من تبدل في خريطة المنطقة السياسية. بينما يترك الخيار الثاني منطقتي الخليج والشرق الأوسط في مهب العمليات العسكرية والانتقامية.

بين الخيارين، يرى أوباما نفسه ملزمًا بابتكار معادلة جديدة للتعامل مع النووي الإيراني وفقها، وهو ما يبدو مهمة صعبة للغاية، خصوصًا مع وجود أحمدي نجاد المتمسك بمواقفه في إيران وبنيامين نتنياهو المتمسك بالخيار العسكري في إسرائيل. وحتى يهبط الوحي على ابن حسين أوباما، ينتظر العالم حابسًا أنفاسه، فالحرب قد تندلع في أي لحظة.