لا مراء في أن ادولف هتلر كان مسؤولًا عن جرائم تُعد من أبشع الفظائع التي ارتُكبت في القرن العشرين. لكن كاتب سيرة هتلر الجديدة، المؤرخ الالماني فولكر اولريش، يذهب إلى أن هتلر الدكتاتور العنصري الدموي رجل ساحر ايضا على المستوى الشخصي.


لندن: أكد المؤرخ اولريش أن الزعيم النازي أدولف هتلر لم يكن مجنونًا كما يصوره أو يريد أن يوهمنا بعض الباحثين في التاريخ النفسي، باعتمادهم منهجًا تبسيطيا في الجدال، بل ربما كان هتلر طبيعيًا أكثر مما نتمنى. ويعتبر كثيرون أن هتلر سايكوباتي أو مختل عقليًا، وأن العديد من المؤرخين يرون أن من يكون قادرًا على ارتكاب جرائم كهذه لا يمكن أن يكون طبيعيًا.
لكن اولريش يقول إن هتلر كان بلا ريب استثنائيًا في أعماله الاجرامية، لكنه لم يكن غريب الأطوار. ولن نتمكن ابدًا من فهم الأشياء المروعة التي حدثت خلال الفترة بين صعوده في العام 1933 وسقوطه في العام 1945، إذا أنكرنا من البداية أن لدى هتلر خصائص انسانية ايضًا. وطالما اقتصرت نظرتنا إلى هتلر على انه وحش مخيف ومصاص دماء، فإن الجاذبية التي كان يمتلكها ستبقى لغزًا، بحسب اولريش.

صورة جديدة
وقال اولريش في مقابلة مع شبيغل اونلاين أن دافعه لكتابة سيرة حياة هتلر يتمثل في أن السير التي كُتبت تتناوله من موقف الاستنكار والادانة، أو من زاوية الأطر والبنى الاجتماعية التي أنجبته، في حين أن الشخص نفسه يبقى صورة باهتة في هذه السير. واضاف أن سيرته الجديدة لحياة هتلر تعيد الرجل إلى الواجهة، وهذا يرسم صورة جديدة تمامًا لشخصية هتلر، بل وصورة اشد تعقيدًا وتناقضًا من الصورة المألوفة.
أضاف: quot;الفصل الموسوم هتلر الشخص فصل أساسي في كتابي، واللافت في هتلر موهبته على الاستيعاب وقدراته الكبيرة على التمثيل، التي تُغفل في كثير من الأحيان، فهناك مواقف نادرة يمكن أن نقول إن هتلر كان صادقًا أو حقيقيًا فيها، وهذا ما يجعل من الصعب معرفة كيف كان هتلر كشخص، فهو كان قادرًا على أن يكون لطيفًا حتى مع من يمقتونه، لكنه كان باردًا إلى حد لا يُصدق، حتى مع القريبين منهquot;.
ويتحدث اولريش في سيرة حياة هتلر عن رجل ساحر، وهي صفة لا تقترن عادة بالحديث عن أكبر مجرم في القرن العشرين. لكن اولريش يقول إن المثال الذي يؤكد قدرة هتلر على كسب ود الآخرين، علاقته مع الرئيس الالماني بول فون هندنبورغ الذي كانت لديه في البداية تحفظات شديدة إزاء quot;هذا النفر البوهيميquot; كما كان يُسمي هتلر، في اشارة إلى انه كان جنديًا بسيطًا في شبابه. لكن في غضون اسابيع من تعيين هتلر مستشارًا لالمانيا النازية، تمكن من تحويل هندنبورغ إلى خاتم في اصبعه. وسجل جوزيف غوبلز، وزير دعاية هتلر، في يومياته أن الدكتاتور لم يكن قادرًا على تبادل اطراف الحديث بلطف مع معارفه القريبين فحسب، بل كان يجيد الاستماع ايضًا.

الجزار الفنان
المعروف عن هتلر انه كان ينفجر في سورات غضب لأتفه الأسباب، لكن اولريش يرى أن غالبية هذه السورات كانت تمثيلًا، وأن هتلر كان يفتعلها لترهيب الآخرين عندما كان التحادث وحده مع خصومه السياسيين لا يحقق مآربه. وفي غضون دقائق، كان يعود إلى تمالك اعصابه. وليس في خلفية هتلر واصوله ما يوحي بأنه سيحترف مهنة جزار القرن العشرين. وبدلًا من تحقيق أمنية والده في أن يكون موظفًا كبيرًا، عكف هتلر على الرسم والقراءة. وقال احد اصدقاء طفولته إن الكتب كانت عالمه.
وأكد اولريش أن هتلر كان قارئًا نهمًا، ولازمته هذه الصفة في كل مراحل حياته. وفي الارشيف الالماني إيصالات تبين اسماء الكتب وأسعارها من متجر بيع الكتب في ميونيخ، حيث كان هتلر يشتري كتبه. وبحسب هذه الايصالات، فإن هتلر كان يشتري كميات كبيرة من الكتب وخاصة عن الهندسة المعمارية، رغم أن كتب السير الذاتية والفلسفة ايضا كانت تستهويه. وكان يلتهم الكتب بسرعة فائقة، لكنه كان شديد الانتقائية، لا يقرأ إلا الكتب التي تتفق مع نظرته إلى العالم ويمكن توظيفها في حياته السياسية، بحسب اولريش.
ولاحظ اولريش أن اهتمام هتلر بالفن كان استثنائيا. فحين كان جنديًا في اجازة خلال الحرب العالمية الأولى، لم يمض اجازته بين المواخير بل في متاحف برلين.
موهبة الالقاء
كان هتلر ذئبًا متفردًا لا يدخن، ولا يتعاطى الكحول، ثم اصبح نباتيًا. ولعل ما يثير الاستغراب أن يكون مثل هذا الشخص قائدًا جماهيريًا. وفي هذا الشأن، قال كاتب سيرة حياة هتلر الجديدة إن اجواء ميونيخ في 1920 كانت أجواء مثلى لمحرض يميني موهوب بالقاء الخطب النارية. وأحاط هتلر نفسه بأتباع متفانين من أجله وضمن دعم ممولين ذوي سطوة، مثل عائلة بروكمان وبارونات في عالم النشر وعائلة بيكشتاين التي كانت تملك مصنعًا لانتاج آلات البيانو، وبالطبع عائلة فاغنر التي اصبحت تعامله وكأنه احد من افرادها.
وتابع اولريش: quot;لكي نفهم هتلر كخطيب، علينا أن نأخذ في الاعتبار انه لم يكن ديماغوجيًا يلهب مشاعر السكارى، في الحانات كما يجري تصويره بل انه كان يصوغ خطاباته بعناية، وكان يبدأ بهدوء كأنه يتلمس طريقه ويحاول أن يقيس درجة استحواذه على اهتمام الجمهور ليتأكد من استحسان المستمعين لما يقوله، ثم يشرع في تصعيد النبرة وحركات الجسم وصولًا إلى الذروة بعد ساعتين أو ثلاث ساعات من الالقاء الجذابquot;.
ويروى رودولف هيس، الذي اصبح نائب هتلر، في رسالة إلى خطيبته انه ذات مرة في العام 1927 دخل هتلر القاعة لاحياء فعالية سياسية أمام حشد من قادة الأعمال واصحاب الشركات في مدينة ايسن. وقابله الحاضرون بصمت مطبق ورفض تام، وبعد ساعتين أصبح الحاضرون يستقبلون كل عبارة يقولها بعاصفة من التصفيق.
وعما إذا كان صوت هتلر في المجالس الخاصة يختلف عن نبرته الخطابية التي ما زالت ترن في اسماع الالمان حتى هذا اليوم، قال اولريش: quot;هناك تسجيلات قليلة جدًا يمكن أن نسمع فيها هتلر وهو يتكلم بصورة اعتيادية، ومن الواضح في هذه التسجيلات على قلتها انه يمتلك صوتًا هادئًا ودافئًان يختلف اختلافًا تامًا عن نبرته وقوة صوته في الفعاليات العامةquot;.
الحل النهائي
أثار موقف هتلر من اليهود تساؤلات في الأوساط الاكاديمية عما إذا كان يكرههم عن قناعة حقيقية، أم أن معاداته للسامية كانت وسيلة لتهييج الجماهير وتحريضها. وفي هذا الشأن، قال المؤرخ اولريش إن معاداة السامية كانت في صلب شخصية هتلر، ويتعذر فهم هتلر من دون مراعاة هذا البُعد في شخصيته.
وأوضح هتلر في كتابه quot;كفاحيquot; انه اصبح معاديًا للسامية بتعصب حين كان لم يزل في فيينا. لكن لا يوجد دليل على اطلاقه عبارات ذم ضد اليهود قبل انتقاله إلى ميونيخ بل على العكس. ففي النزل، حيث عاش ثلاث سنوات في فيينا، اقام علاقات ودية مع اشخاص يهود وكان تجار الفن الذين اشتروا لوحاته بسعر محترم من اليهود.
وعن اسباب التغير الذي طرأ على موقف هتلر من اليهود، قال المؤرخ الالماني الذي كتب سيرة حياته الجديدة إن المعروف أن هتلر اصبح معاديًا متطرفًا للسامية خلال ثورة 1918 ـ 1919 في المانيا، التي عايشها مباشرة، وبدأت ثورة يسارية متطرفة ثم انقلبت ثورة يمينية متطرفة. وكانت جمهورية ميونيخ السوفيتية التي لم تعمر طويلًا تضم يهودًا في قيادتها، وأدى هذا إلى عداء للسامية انتشر في عموم المدينة كالحمى، على حد وصف اولريش.
وكان طالب قانون في ميونيخ نقل عن هتلر رأيه باليهود في صيف 1920، فكان يرى ان الفيروس يجب أن يُستأصل، وان وجود الشعب الالماني نفسه مهدد بسبب اليهود. لكن اولريش قال في حديثه لشبيغل اونلاين إن المشروع السياسي الذي انبثق من نظرة هتلر إلى العالم لم يكن يتضمن قتل اليهود بالجملة. ورغم خطابيته عن السحق والمحق، فإن التخلص من اليهود كان يعني طردهم من المانيا. وان ما يُسمى بالحل النهائي بمعنى قتل يهود اوروبا منهجيًا لم يدخل في تخطيطه حتى بداية الحرب العالمية الثانية.
ولاحظ اولريش أن الاعتداءات واعمال التخريب التي استهدفت اليهود ومصالحهم في ما أصبح معروفا باسم quot;ليلة الكريستالquot; في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1938 لم تقترن باسم هتلر الذي تمكن من البقاء وراء الكواليس، رغم انه كان هو الذي يحرك الخيوط.

سيارة آخر موديل
يكتب اولريش أن الفوهرر كان يصور نفسه قائدًا متواضعًا، لكنه في الخفاء كان يعفي نفسه من الضرائب. وقال المؤرخ الالماني في حديثه إن موظفًا في مصلحة ضرائب ميونخ لاحظ في العام 1934 أن على هتلر مستحقات ضريبية تبلغ 405 آلاف مارك الماني. وصدر على الفور قرار يلغي إلزام هتلر بدفع هذه المتأخرات، معلنًا إعفاء القائد من الآن فلاحقًا من الضرائب وصدر توبيخ شديد اللهجة للموظف الذي لاحظ تخلف الزعيم عن دفع الضرائب.
وكانت طوابع صدرت ابتداء من العام 1937 تحمل صورة هتلر الذي كان يتقاضى نسبة من الايرادات المتحققة عن هذا الطريق. وقال اولريش إن هتلر كان يحب حياة الترف، وليس مصادفة انه حتى في سنواته الاولى كان يستخدم سيارة مرسيدس من احدث الموديلات. كما أن شقته ذات الغرف التسع في ميونيخ لا تتفق مع صورة رجل الشعب المتواضع، الذي يعمل ليل نهار من اجل الشعب الالماني. وعثر اولريش على فواتير فنادق اقام فيها هتلر مع رفاقه قبل العام 1933، وانفقوا 800 مارك للاقامة اربعة ايام في فندق كايزرهوف في برلين مثلا، وهذا يعادل نحو 3500 يورو أو 4700 دولار بنقود اليوم.
وأفرد اولريش في سيرة حياة هتلر فصلا كاملا لعلاقاته مع النساء. وقال المؤرخ الالماني إن هذا جانب يجب ألا يُغفل من أي سيرة. وفي حالة هتلر، هناك ايضًا الحقيقة الماثلة في انه لم يفصل بين أحاديثه الخاصة وخطاباته العامة بل كان يخلط بين هذين المجالين بصورة غريبة. وكان هذا واضحًا على الأخص في مقر بيرغهوف، حيث كانت الأماكن الخاصة وأماكن العمل تتداخل فيما بينها من دون تمييز.
ماذا لو؟
من الشائعات التي أُطلقت عن هتلر انه كان صاحب ميول مثلية. وقال اولريش إن هتلر كانت لديه خصية واحدة على ما يُفترض، وان هذا جعله يمتنع عن نزع ملابسه أمام النساء. ولكن هذه كلها شائعات لا يُعتد بها. فهتلر كان شديد التكتم على هذا الجانب من حياته، وهناك القليل جدًا مما يعرفه الباحثون. واعرب اولريش عن اقتناعه بأن علاقة هتلر مع عشيقته ايفا براون، التي كانت تعمل مساعدة مصور في ميونيخ، علاقة اشد حميمية مما كان يُعتقد.
وذهب الكاتب ايان كيرشو إلى أن هتلر كان يطفئ نار شهوته الجنسية برؤية انتشاء الجماهير به وبخطبه. لكن اولريش استبعد ذلك واشار إلى عدم وجود دليل قوي يؤكد ذلك، وقال إن هتلر رغم ستار السرية الذي كان يحيط نفسه به فانه عاش مع ايفا براون حياة اعتيادية بين عشيق وعشيقته.
وعن دور هتلر في التاريخ والمسار الذي كانت ستتخذه اوروبا والعالم لولا وجودهن قال اولريش غن القوى المدمرة التي اطلقتها النازية كانت ستجد منفذًا آخر، لكن محرقة اليهود ما كانت لتحدث ولا يمكن تخيلها من دون هتلر.