سُئل الشيخ البهائي ( توفي 1031 هجري ) عن كتاب ( المثنوي ) لجلال الدين الرومي ( توفي 672 ) ورأيه فيه، فقال : بعضه يهدي و بعضه يٌظل. والتيار الليبرالي في العراق الجديد، حكمه عندي كما أسلف البهائي ( رحمه الله )، بعضه يهدي وبعضه يظل.
ونسبية البهائي في جوابه هذا ( ليبرالية ) هيَ الاخرى بامتياز، بيد أن النسبية في التفكير، والحكم على القضايا والمفاهيم بمرونة ومطاطية، هي واحدة من أهم سمات المدرسة الليبرالية المعاصرة.
وأملي في القارئ النوعي، إن كان ليبراليا على وجه الخصوص، وفي أي درجة من درجات اللون الليبرالي يجد نفسه، أن يتعامل معي بعقل نسبي هو الآخر، لأنَ زمن العقول الستاتيكية الصلدة، والقوالب النقدية الجاهزة، قد تهرأ وانقضى، ولم يعد في زماننا هذا متسع للخنادق المتباعدة، أو الترامي الفكري من مسافات بعيدة، ووفق مناهج عرجاء تعتمد البناء على المجهول، كما في ( يُعتقد ) و ( يُحكى ) و ( يُروى ) و ( يُقال ). بل قربتنا الأتصالات والمعلومات الثائرة، والتعايش الذي أصبح ممكنا ً أكثر من ذي قبل، بحيث صرنا سوية ً،أفندية ومعممين، زنادقة ومؤمنين، سلفيين وخلفيين، نجلس مسافة ما بين كرسيين في برلمان واحد، أو فضائية واحدة. أو مسافة مابين نَقرتين في موقعين متجاورين على شبكة الأنترنت، بل وفي أحيان أخرى، مسافة ما بين قبرين : الأول لدكتاتوري سابق، والثاني لديمقراطي لاحق.
ولكي لا أخون قارئي في هذه النقطة بالذات، فأن كل هذا التقارب المبني على الامكانيات الهائلة التي وفرتها التجربة البشرية، لا يعني أننا أصبحنا ننبض بقلب واحد أو نسير بخطوة واحدة، وهذا لعمرو أبيك من المحال الذي نفاه القرآن : ( ولا يزالون مختلفين ) ( ومن آياته أختلاف ألوانكم وألسنتكم ). لكن الارضية المنبسطة والقابلة للوقوف المشترك التي أقترحناها، وجرى التوافق على تأمينها ولو أدبيا ًـ في الثقافة السائدة،هي حق التعبير والاستماع، حق التعبير عن الذات وامتلاك القناعات، حتى لو أمتلكتُ أنا بعض الأيمان، وامتلكتَ أنتَ بعضَ الكفر، فأن القاعدة التي نؤمن بها تقول : لكم دينكم ولي دين ِ.
لكن ماذا عن ( الليبرتارية ) العراقية في حقيقتها وواقعها ؟ وكيف أصبحت هذه الدعوى القديمة الجديدة ؟ وما هو حال ومآل المبشرين بها والداعين اليها، والكافرين بها ربما ؟
قبل أن أخوض في الاجابة والأستطراد، لزاما ً علي أن أزيح الغموض، أو أرفع الالتباس عن بعض المصطلحات والمفاهيم، الموطئة لهذا الموضوع، من باب رفع كلفة المتابعة ربما الاضافية. ف (فالليبرتارية ) مشتقة عربيا وبعد الترجمة من ( الليبرالية ) ولا مانع لغوي لدي في أستعمالهما كمترادفين لمعنى وأحد، حتى على فرض وجود أختلاف طفيف أو ربما متفاوت في دلالتيهما..
فالليبرالية جاءت من الأصل اللاتيني ( ليبر ) أي الحرية، لكنها نقلت أصطلاحيا لتعبر عن تيار سياسي وأجتماعي وأقتصادي، يقوم على مركزية الفرد مقابل مركزية السلطات،وأهمها السلطتان : سلطة الدولة و السلطة الأبوية. وفي حين عبر الموقف من سلطة الدولة عن البعد السياسي، فأن الموقف من من السلطات المعنوية الابوية كان هو الاكثر التباسا ً في تحديد الليبرالية والموقف المعرفي منها. وقد تمثلت مصلحة الفرد بشكل يهدد حياته اليومية، واتخذت من السلطة موقفا ًتاريخيا قائما ً على الريبة والتشكيك بالنوايا والممارسات، في نفس الوقت الذي اعتبرت فيه الأقتراع العام واحدا من اهم اركانها. لكن حتى التعامل مع سلطة ما بعد الأقتراع فأنه يجب أن يكون مسكونا بالحذر الشديد من خلال مقاومة مطالب رجال الدولة بالمزيد من الصلاحيات والامتيازات.
ويؤثر في الفكر الليبرالي القول المشهور للورد ( آكتون ) : أن السلطة تتجه دائما نحو الفساد،والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة
وقد ساعدت نظرية التشكيك بالسلطة الاوربيين تاريخيا على بلورة موقف مبكر من محاولات الهيمنة. فعندما طالب( لويس الرابع عشر) في فرنسا وملوك( آل ستيوارت ) في بريطانيا بسلطة أضافية وجدوا مقاومة ذاتية شديدة من نفس قطاعات الشعب الذي لم تكن لديها مواقف قطعية رافضة لاصل سلطة النظام الملكي آنذاك.
إن تعاطي المجتمع الغربي اليوم مع المنجز الأقتصادي والثقافي الذي قدمته له الحكومات اليبرالية، غير معني كثيرا باتخاذ موقف فلسفي أو معرفي مسبق وهو
يشبه كثيرا تعاطي بني البشر مع مواد الطبيعة، فالكثير منا يتنفس الهواء، ويشرب الماء، ويحترق بالنار، من غير أن يكترث بتعلم المعادلات الكيميائية التي كونت هذه العناصر. أن التعاطي مع المنجز والتفاعل معه، وأستحلاب خيراته بصورة أشباع الغرائز الاساسية للأنسان شيء، ومحاولة فهمه في صيرورته وتحولاته شيء آخر. بيد أن المحاولة الثانية هي شغل النخب المثقفة تثقيفا ً عاليا ً ( الأنتلجنسيا ).
إن غياب المرجعية الواضحة للفكر الليبرالي، وعدم وجود محددات معرفية شاملة، شكلت المهمة الاصعب أمام نقد هذا المشروع المتفوق في حظوره. وهذه لعمري من المفارقات المهمة التي تدعونا لمراجعة أصل العلاقة بين القناعات الأيمانية الراسخة، وبين قيام مشاريع خدمة الأنسان، وأستيعاب متطلبات حياته الكريمة ضمن مشروع الدولة الناجح.
لكن بصورة عامة، فأن المشروع الليبرالي أستطاع أن يدير دينامية ذكية في خطابه المعلن، أهلته للقفز من فوق المتناقضات الأجتماعية الكبيرة، في العقائد، والأخلاق، وأنماط السلوك، والتصَير التاريخي، وقد أستوعب ذلك كله في أصرار مقصود على تسطيح المفاهيم، وعدم الوقوف على تحديداتها، أو تعريفها، من أجل أن يسهل ضمها أوجمعها مع نقائضها الاخرى، كما في الأس الأكبر لهذه المدرسة quot; الحرية quot;
لقد جرى تبرير ذلك بالتبني الليبرالي تاريخيا ً للمنطق النسبي. والنسبية كمنهج تفكير، ثبت أنها تصلح للتعامل مع بعض القضايا، كما تفشل في التعامل مع قضايا أخرى. كما في التعامل مع مفهومي ( الآداب ) و ( الأخلاق ). لذى بقينا نقف أمام مفهوم سايح ومطاط، يعاني من تشظي الدلالة ومراوغة التحديد.
لكن السؤال المُلح الأهمية في الواقع الذي يعالجه المقال : هو كيف أنعكس ذلك على واقع التحول السياسي الكبير في العراق.. ؟
وكيف أصبحت الليبرالية ( دار ابي سفيان ) للسياسة العراقية، بعد أن تهدمت تلك الدور القديمة على رؤوس أصحابها، وملأت دار العراقيين الكبير قلقا ً، وخوفا ً ورعبا ً.. ؟
إنك لاترى حين تلتفت إلى من حولك ممن يدعي الليبرالية في العراق، إلا وجدته أحد ثلاثة : شيوعيٌ محبط، أو أسلامي ٌ مختنق، أو بعثي ٌ quot; تائب quot;.
ربما عُدَ العهد الملكي في العراق هو العهد الأقل سؤا ً في التعاطي مع موضوعة الحريات العامة، والملكية الدستورية، والأستفتاء والتصويت العامين، والنظام البرلماني، والتزام بعض التقاليد والمظاهر الديمقراطية. وطوال ستة وثلاثين عاما ً، ظل هذا النظام يحبو ببطيء نحو ترسيخ دولة واضحة المعالم تخرج بالعراق من قرون الأستبداد العثماني، وتجربته الفاقعة اللون.
لذى فأن هذا العهد كان يفترض أن يكون هو المرشح تاريخيا ً لريادة التيار الليبرالي. وكذلك رموز هذا العهد كشخصيات تاريخية أو أمتداد لها كانت هي الاخرى مرشحة لحق الكلام عن الليبرالية و quot; المشروع quot; الليبرالي. لكن هذا لم يحدث..! وهنا تكمن عقدة القول.
في رأيي، أن الأميَة والعسكر هما من قضى عل حسنات العهد الملكي. ولم تكن سيئات هذا العهد كافية لذبحه بالطريقة التي ذ ُبح بها.
لقد كان (( الشيوعيون )) و (( البعثيون )) و (( والقوميون )) العرب والأكراد منهم يعارضون النظام الملكي بأدوات سياسية شمولية صرفة. وتجربة الشيوعيين بين ( 1957 1963 )، والقوميين بين ( 1963 1968 )، والبعثيين بين ( 1968 2003 )، كان جوفها السياسي مليئا ً بكل شيء، غير أنه لم يحمل، ولم يلد لبراليا ً واحدا ً.
أصبح من المعقول جدا ً أن نتسأل عن هذا الجمع المتكاثر من دعاة الليبرالية في العراق الجديد..؟ وكيف جاء هاؤلاء الذين ذبحوها بالأمس ليطلبوا بدمها اليوم.. ؟. والذي يغلب على الظن، أن الطبيعة الفضفاضة، والمفاهيم الرخوة للدعوة الليبرالية التي أشرنا اليها، هي التي جعلت الفرصة سانحة أمام أيتام الفكر الشمولي للأرتماء بأحضان هذه المدرسة، quot; وتبنيها quot; والأحتماء بها.
قد يقول القائل : إن هذا تعبير طبيعي عن نضج التجربة العراقية، وأن السياسين قد أستفرغوا التاريخ بكل ما فيه من أدوات فكرية وثقافية وأيديلوجية، وأدركوا أخيرا أن الليبرالية هي الخيار الأفضل، ورددوا خلف ( فوكوياما ) أنشودة نهاية التاريخ.
لكن التاريخ لم ينته بالنسبة لهاؤلاء على الاقل، فأن زمنهم لا يزال متصل صلة وثيقة بالواقع الذي عاشوه بالأمس، وساهموا في صناعة مرارته ومآسيه وعذاباته، مما لا يؤهلم أن يكونوا دعاة أصلاح، أومراجعين حقيقيين لتلك الفصول الصعبة من التاريخ.
هنا أتذكر فكرة ( انسان ما بعد الحضارة ) التي أبدعها المرحوم مالك بن نبي، والتي يبين فيها أن الحضارات عندا تولد فتية وغضة، ثم ترتقي فتبلغ الأوج، ثم تتفسخ وتنهار، فأن هذا التفسخ والأنهيار، يترك خلفه أنسان هو الآخر متفسخ ومنهار. إنه نموذج محطم و خائر القوى، يحمل معه جميع عقد الأمس، وأمراضه، وعوامل ضعفه وتدهوره. إنه بعبارة أخرى يحمل معه فيروس الأنهيار والسقوط، الذي لا يؤهله للبناء والنهوض.
لا أنكر أن لدينا ليبراليون بيض الثياب، لكن الأكثر والأعلى صوتا ً منهم، هم الأدعياء الجدد، الذين أتسخت ثيابهم بتلك الندب السوداء التي يصعب غسلها.
إن من المريب أن تجد الليبرالي الملكي، أو الليبرالي quot; الاسلامي quot; الذي لم تتلوث يداه بخطايا الامس، مفلسا ً من الدعم والمال والأعلام. بينما يحضى quot; الليبراليون quot; من البعثيين والقوميين quot; التائبين quot; بشتى أنواع الدعم وتكاثر الأتباع، الذين غالبا ً ما يكونوا من quot; رفاق quot; الماضي القريب.. !
إن شرائح سياسية عديدة من الماضي الذي مات وتفسخ، وجدت في التيار الليبرالي بابا ً أعتقدت أنه مشرعا ً
لتقف عليه وتعلن عن توبتها. لكنني على قناعة كبيرة أنها وعل أحسن المحامل محاولة ذاتية للتصالح مع الحاضر، والتماشي معه، أكثر منها تحولا ً حقيقيا مدفوعا ً بالقراءة الصحيحة والمراجعة الجادة.
ومن لطائف ما يُحسن الأشارة اليه، هي تجربة الكاتب العراقي حسن العلوي. فهذا الكاتب المحترف، والمقروء النص على نطاق واسع، بدأ حياته قوميا ً، ثم بعثيا ً، ثم مدافعا ً عن ظلامة الشيعة، قبل أن يقدم نفسه بالقميص الليبرالي الأخير. وكان العلوي كثير النظر إلى الخلف، ولم يكن ساذجا ً في أداء لعبة التحول والقفز من المراكب الآيلة للغرق كما هو حال الكثير من أقرانه وأشباهه. وتقانته السياسية كانت تقوم على ما يلي : عندما يشعر أن مرحلة من المراحل ربما أحترقت تحت أقدامه، فأنه وقبل القفز إلى المرحلة الجديدة، يعمد إلى ردم الحفر العميقة التي تركها على الطريق القديم، وترقيع ما ضاق على الراقع وتمكن منه. ولأن العلوي كاتب محترف، فأن طريقته في التصالح مع الحاضر، وأرضاء الماضي، كانت تتم بكتاب. لذى كان كتاب ( عبد الكريم قاسم : رؤية بعد العشرين ) مصالحة مع قاسم والشيوعيين، وأسترضاءا ً لهم على ما أقترفه ضدهم في طوره القومي. بينما جاء كتابه ( الشيعة والدولة القومية في العراق ) كمشروع مصالحة وأسترضاء أيضا ً، لكل من : الشيعة الذين هم أهله،وحزب الدعوة الذي يحسب أنه حزبهم، على ما أقترفه بحقهم في طوره البعثي. لكن الألطف من هاتيك التجربتين، هي التجربة الثالثة. فقد خرج صاحبنا خالي الوفاض بعد سقوط نظام البعثيين بشكل مباشر على يد الأمريكان الذين سبق أن روج لمشروعهم في مراحله الأخيرة. فلم يكن أمامه غير أعلان المعارضة للنظام الديمقراطي الجديد. لكن كيف ؟ ومع من ؟.
كان القطاع المؤهل لأحتضانه وتبنهيه هو خليط من طائفيي السنة العرب الأكثر حنقا ً من صعود غرماء دهرهم الشيعة، والبعثيين، رفاق الأمس الذين نعق ببيوتهم الغراب، وحط البوم فوقها. وبما أن الطور الأخير المتصل كان يحمل معه طابع الأنحياز للشيعة، والدفاع عنهم، فقد جاء كتاب ( عمر و التشيع ) كعربون تصالح مع الواقع الجديد ؟ !
إن هذه الوصلة الأخيرة من سمفونية العلوي، تشي للمتابع الحاذق أن الكثير من الريبة وسؤ الظن، ينبغي أن تختزن تجاه جمهرة واسعة من الأنتهازيين الذين أمتهنوا السياسة حتى صار يشبه الفيل الكبير الذي هرم على هذه اللاعيب واستمرءها
إن الذي جعل شعار الليبرالية هو الأرجح للدخول في البيت العراقي الجديد هو ثلاثة أسباب مهمة :
الاول أن اليبرالية هي (( دين المنتصر ))، والناس على دين النتصر، وتتأثر به كثيرا ً. وهو الغرب الذي تقوده أمريكا، في حالتنا هذه.
والثاني هو أن التيار اليبرالي هو التيار الأهم، من غير المتورطين بالماضي القريب والدخول تحت عباءته يوفر فرصة كبيرة للتنصل من الماضي، والتمويه على الحاضر.
أما السبب الثالث، فهو ما أسلفناه من الخصائص الذاتية التي يمتاز بها الفكر الليبرالي، والتي تفتقر للمحددات، وتكتفي بربط الأطار العام لبعض الافكار والمتبنيات، التي تمتد في مساحتها، لتسمح بدخول الأشباه والأغيار.
يقبل الفكر الليبرالي الآخر المتمايز، لكن ليس مطلقا ً، فهو يشترط التعامل بالمثل، حتى يصبح تنفيذ الحريات ممكنا ً في أجتماع متوحد ما. وهذا يعني أن السكوت عن quot; المنفي quot; و quot; المستبعد quot; و quot; المحرم quot; عند الآخر، هوالشرط لتسويق الذات بكل ما تحمل من هذه المفاهيم والممارسات وأنماط السلوك. إنها عملية تغاضي متبادل بين التكوينات الثقافية المتناقضة داخل الحيز الأجتماعي الواحد. وهكذا تواجه الفلسفة الليبرالية الشهيرة : في أن حدود حرية الفرد تقف عند حرية الآخرين، ضبابية وعدم جلاء هذين الحدين. فما أسميه أنا أنفلات يسميه الآخر حرية، وما يسميه الآخر حرية أعتقاد قد أسميه أنا حرية الالحاد. ربا يكمن سر اليبرالية في أن المجتمعات قبلتها كطريقة محايدة للتعامل مع الأنسدادات التي قد يقف عندها الحوار والوفاق الأجتماعي، وهي بهذا المعنى تصلح أن تكون وقفا ً لاطلاق النار، وليس أعلانا ً لانتهاء الحروب.
لقد ذهبت الليبرالية إلى أبعد من جمع المتناقضات الفردية إلى جمع المتناقضات السياسية في مشروع الدولة الواحد ! فالصين الشعبية جمعت بين الليبرالية الأقتصادية، والتوليتارية الشيوعية، ودول الخليج العربية، كيفت محاولاتها في تطبيق أقتصاد السوق مع أنظمتها السياسية التقليدية المحافظة. فأصبح من المألوف أن ترى ما سمي quot; بأشتراكية السوق quot; تشق طريقها من بين مليون شاب متعلم يدخلون سنويا ً في الحزب الشيوعي الصيني الذي أحتفل ببلوغ أعضائه ستين مليون عضو. أو أميرا ً مثل الوليد بن طلال يقود مجموعة ( ستي كروب ) بهذه الطريقة. كذلك الحال على صعيد المحاولات اليبرالية لخلق الوئام المجتمعي، وتمييع الفواصل الثقافية بين المجموعات الدينية والعرقية المتمايزة، حيث أفضت التجربة بالعديد من المعطيات اللافتة على هذا الصعيد.
لقد أثبتت التجربة العراقية أخيرا ً، أن العمل الحزبي، الذي هو من مقومات الليبرالية السياسية، شهد هو الآخر أختراقا ت عرقية وطائفية ومصالحية ضيقة، وأن الطائفية المجتمعية، التي سبق أن أنسجمت مع الدولة القومية في النموذج الأوربي، شكلت أحد أهم العوائق امام المشروع العراقي الجديد. فالطائفية العراقية، أثبت أنها أشد عصبية من من الشعور القومي العربي، والذي فشل في جمع شيعة العراق مع سنته، كما فشل الشعور الوطني في جمع عرب العراق مع اكراده في مشروع واحد. بل أبعد من ذلك، بحيث نجد أن العصبية الطائفية، تتفوق في حدتها وتطرفها، في أحيان كثيرة، على العصبية الدينية ذاتها.
في شمال ألمانيا، أعيش أنا في مدينة صغيرة من مدن المانيا الشرقية سابقا ً، وهي مدينة تشبه في حالتها، اخواتها من مدن أوربا والغرب عموما ً، يتعايش فيها الجميع بسلام وأمان، ويتجاور فيها المؤمن مع الكافر، والمسيحي مع المسلم واليهودي بلا فرق يلحظ. ولا يتعدى عمر الجالية الاسلامية فيها أكثر من عشرين عاما ً تقريبا ً. ويوجد فيها الآن مسجدين للمسلمين، أحدهما للسنة، والآخر للشيعة. وكان هنا صديقين مسلمين، أحدهما شيعي من العراق، والثاني سني من الجزائر. وكالعادة، فأن الشيعي العراقي كان يصلي في مسجده، كما أن السني الجزائري كان يصلي في مسجده هو الآخر. وذات يوم ألتقيا وجلسا للحديث والنقاش كما هي عادة الأصدقاء، فبادر صاحبنا المسلم السني الجزائري، بالقول : أن الدعوة الاسلامية قد نمت وتطورت في مسجدنا، وأصبحت تشمل الألمان الذين بدأوا في اعتناق الأسلام. ثم أستطرد قائلا ً : تصور أنه في الجمعة الماضية جاء إلى المسجد ثلاثة نساء ألمانيات فأعلن ّ أسلامهن ّ. فبادره صديقه المسلم الشيعي العراقي بالقول متسائلا َ : وهل أصبحن ّ مسلمات شيعيات أم سنيات ؟ فقال الجزائري : سنيات طبعا ً. فردَ العراقي ممتعضا ً : أعتقد أنهن َ لو بقين ّ مسيحيات لكان أفضل. ليس هذا عندنا فحسب، بل أن بريطانيا الدولة العريقة في تقاليدها الديمقراطية ونظامها الليبرالي، لم تستطع أن تقضي على هذه الآفة ألاجتماعية المهلكة. فظل السجال الكاثوليكي البروتستانتي ماثلا ً للعيان، كمثول شبيهه السني الشيعي عند المسلمين.
علمت من الزميل السعودي محمد المحمود أنه قرأ في مذكرات الدكتور محمد العناني هذه القصة: أنه وفي أثناء فترة دراسته في بريطانيا، كان له زميل مبتعث من مصر، وكان هذا الطالب مسيحيا ً قبطيا ً، وقد تعرف على فتاة بريطانية كانت تحبه بصدق ووفاء، لكنه لم يكن جادا ً في علاقته معها، ويريد أن يلعب ويستمتع فحسب. لكن هذه الفتاة المغرمة كانت تلح عليه ليتزوجها، وكان هو يماطل ويوسوف معها في الجواب، إلى أن تفتق ذهنه عن حيلة، لعله يقنعها فيها بالكف عن هذا الالحاح، وأن تصرف ذهنها عن فكرة الزواج، وترضى بما هي عليه من علاقة. لقد كذب عليها قائلا ً: إنك من عائلة مسيحية بروتستانتية محافضة، وأنا شرقي مصري مسلم، ولا أعتقد أبدا ً أن أهلك سوف يوافقون على زواجنا. فصمتت الفتاة، وتفاجأت بهذا العذر الذي لم يكن على بالها، وذهبت إلى البيت وهي تفكر في حل لهذه المشكلة. لقد فوجئ صاحبنا في اليوم التالي أن الفتاة جاءت ضاحكة مستبشرة، وهي تقول له : لا عليك، لم تعد هنالك مشكلة تقف في طريق زواجنا، لقد وافقت عائلتي على ذلك. فذهل صاحبنا من هذه الموافقة السريعة وغير المتوقعة، وسكت قليلا ً قبل أن يسألها : لكن كيف حصل هذا ؟ فقالت له : عندما عرضت الامر على والدي وقلت له أنك مسلم، التفت إلى والدتي وسألها، هل أن المسلمين كاثوليك ؟ فقالت له : لا، لا أعتقد ذلك، أنهم أناس طيبون، ولا علاقة لهم بالكاثوليك، فالتفت الي وقال : حسنا ً، لا مانع لدي من الزواج منه، ما دام ليس كاثوليكيا ً.
الليبرالية إذا ً، لا تستطيع أن تذوب الأنتماءات القبلية، أو تحد من السلطة الابوية، ما لم يكن ذلك نتاجا ً طبيعيا ً، لرغبة فردية في التحرر من هذه القيود والألزامات الذاتية. ولسنا نطالب المجتمع الليبرالي بالقيام بذلك بشكل قسري أو أعتباطي يناقض بالأساس طبيعة الفكرة، لكن نود الأبتعاد عن التهويمات الليبرالية، التي تريد العمل من منظور أفتراضي جاهز، من دون أن تخضع للشرط الأجتماعي، والواقع التأريخي، الذي تتشكل منه البيئة المعدة للأشتغال.
أن الاقتصاد الحر ( اقتصاد السوق ) الذي يعتبر حجر الأساس في المجتمع الليبرالي، بأعتباره تعبيرا ً عن حرية الفرد الأقتصادية، لا توجد له مقومات منظورة في بلد يعيش المرحلة التحولية quot; البطيئة quot; التي يمر بها العراق. فعن أي أقتصاد سوق نتحدث في بلد يعتمد على الأقتصاد الريعي في أكثر من تسعين بالمئة من واردات الدولة ؟ أين هي المصانع ؟ وأين المال الحر، وأين هي السوق كي تطالب بحريتها ؟
يقول بعض quot; الستراتيجيين quot; أن من الأخطاء الشائعة، الحديث عن الخطط المستقبلية التفصيلية، لأن بأمكاننا فحسب، أن نعطي تصورات عن هذا المستقبل، أو نعد خططا ً تتعامل مع أفتراضات محددة. أما ما سيحدث، فأنه من الأمور التي تخضع للتفاعلات التاريخية المتنوعة، والمفاجأة الكثيرة التي تحدد هي طبيعة هذه الخطط، وأنماط العمل بها. ونحن هنا تعتبر أن أقتصاد السوق لا يزال مجرد أفتراض وتصور مستقبلي، في واقع الدولة العراقية التي عانت من أهتزازات عنيفة في أصل بنيتها، بشكل جعلها عرضة للتشكيك في انطباق مفهوم ( الدولة ) عليها بشكله العلمي الذي هو عليه الآن.
أن الحسنة التاريخية الأهم التي يمكن أن يقدمها quot; الليبراليون quot; العراقيون، هي المساهمة المرحلية في توفير وخلق روح التعايش بين القطاعات، والفعاليات، السياسية والثقافية المتمايزة في العراق الآني، ومن ثمة، تركه يصنع نموذجه بواقعية، وتلقائية أكبر. بعد ذلك، سنرى ماذا تستطيع عمائمنا وقبعاتنا أن تعمل معا ً، وهل سيجتمعان كما سبق أن أجتمع سوية (( هوبز )) السلطوي، مع (( جون لوك )) الديمقراطي، في أطار تاريخي مرجعي ليبرالي واحد ؟.
كاتب وباحث في الفكر السياسي الاسلامي
التعليقات