تثبت لنا ملحمة جلجامش يوما بعد يوم إنها اكبر من مجرد نص أسطوري فقد قدمت لنا الكثير من المعلومات الثمينة عن الواقع التاريخي المعاصر لها وفي بحثنا هذا سنحاول استثمار نص الملحمة في استقصاء رحلة يمكن أن تعد أقدم رحلة بحرية مدونة في التاريخ فبحسب علمنا ليس هناك نص يتكلم عن رحلة بحرية يسبق من حيث الزمن النص المذكور في ملحمة جلجامش والذي يستوعب مجمل اللوح العاشر من ألواح هذه الملحمة فمعظم النصوص التي تتكلم عن رحلات كهذه متأخرة كثيرا عن الزمن الذي دون فيه هذا النص بما لا يقل عن عشرة قرون ناهيك عن طوله الذي لا يدانيه نص آخر حتى مراحل زمنية متأخرة حيث تنعدم النصوص المطولة إلى زمن هوميروس صاحب الأوديسة أو حنون الفينيقي صاحب الرحلة التي اجتازت أعمدة هرقل ودارت حول ساحل المحيط الأطلسي ( بحر الظلمات ).
سنحاول في هذه الدراسة المتواضعة إثبات حقيقة هذه الرحلة وقيمة المعلومات التي تقدمها عن الظروف والأحوال المعاصرة لزمنها هذا بالإضافة إلى استجلاء هوية المكان الذي قصدته في ضوء ما لدينا من معطيات أثرية وتاريخية يمكن مقارنتها بنص الملحمة.


(1)

إذا كان الفكر العراقي القديم نتاج حضارة عميقة الغور أصيلة الفحوى يمتد عمرها إلى عدة آلاف من السنين فان ملحمة جلجامش هي نتاج صادق وصورة رائعة له لأنها تماهت بشكل كبير مع عناصر ذلك الفكر الذي بني في معظمه على معطيات واقعية خلفتها الحياة في هذا الوادي وليس مجرد افتراضات عاطفية وجدانية يخلفها الغموض والسكون كما يحصل عادة في بيئة يغشاها الهدوء والرتابة
فلكون البيئة التي عاش فيها الإنسان العراقي القديم صعبة وقاسية فقد تولد لدى الإنسان شعور بالترقب وعدم الأمان والتحسب لكل شيء الأمر الذي مكنه من إضفاء رؤية واقعية على تفكيره مخلصها أن البقاء مؤقت والفناء دائم والنظام عارض والفوضى عميقة ومستحكمة في الوجود الأمر الذي دفعه إلى استخلاص نظريته في الحياة وهي انه لا شيء يغني عن العمل من اجل دفع الضرر ونشدان الأفضل ولا سبيل لاتقاء المخاطر بدون السعي للوصول إلى الأمان ليتولد لديه نزوع للبحث والتأمل فيما يحيطه من مظاهر طبيعية يمكن أن يجد الإنسان فيها ضالته فيعثر على أجوبته الكبرى حول الحياة ومصيرها والكون ونظامه والوجود وحقيقته.
لذا فان أهم السمات الأساسية التي ميزت ملحمة جلجامش عن مثيلاتها من الملاحم الأخرى في أنها أعطت لأسئلتها إجابات فكرية لا ميثولوجية على الرغم من طابعها الأسطوري العام لذا ليس بمستغرب أن نجد جلجامش يحاول جاهدا تلافي الموت من خلال البحث عن وسيلة مادية محيدة له مدركا أن الحياة هي ذاتها مؤسسة للموت ومنتجة للفناء حتى تستقيم ويدوم حالها لكنه بعد أن فشل حول فشله إلى عمل ايجابي يتمثل بالسعي لنشدان الخلود المعنوي من خلال الذكرى الطيبة والعمل الجليل المثمر.


(2)


لقد سعى مدونوا الملحمة إلى تلخيص الفكرة الأساسية لذهنية حضارة بلاد الرافدين حتى تكون بمتناول الناس ليتمكنوا من متابعة حياتهم بكل ايجابية وهذا ما يتيح لنا أن نعتقد أن أمر تدوين الملحمة لم يصدر لغرض خاص وان يرد أن تكون أغراضه مزدوجة أيضا بسبب ما سببته الملحمة من ذيوع صيت جلجامش وبالتالي علينا أن لا نتجاهل الطبيعة التاريخية للكثير من أحداث الملحمة على الرغم من طابعها الأسطوري العام واحتوائها على عنصر المبالغة المتوافق مع ذهنية الناس في تلك الآونة خصوصا مع إمكانية التحقق من بعض المعلومات الواردة في الملحمة من خلال الاستعانة بشواهد التاريخ والآثار.

(3)

ولنبدأ أولا من حقيقة وجود رحلات مماثلة لرحلة جلجامش المدونة تم التأكد منها استنادا لما تم العثور عليه من آثار وشواهد مادية مثلتها رسوم السفن الشراعية على الأختام والفخار فهذه السفن لابد أن تكون مصنوعة لخوض رحلات من هذا النوع وليس لرحلات نهرية وحسب كون الأنهار التي تمتاز بصغرها وهدوئها لا تحتاج إلى سفن ذات أشرعة بل إلى أبلام ومشاحيف تعتمد المجاديف أو المرادي في الدفع والحركة حيث لم يتطور ارتياد الأنهار عن هذا الأمر حتى وقتنا الحاضر فبإمكاننا ملاحظة أمثالها وهي تخوض في اهوار العراق وأنهاره بكل هدوء وانسيابية لذا ليس بمستبعد قيام جلجامش برحلة من هذا النوع ما دام هناك فعلا رحلات شقت طريقها عبر مياه الخليج حتى بلغت مدنا وأقاليم بعيدة امتازت بعلاقاتها المتينة مع حضارة وادي الرافدين كدلمون ومكان وميلوخا على الرغم من الجدل المثار حول هوية هذه الأمكنة والتي لم يتم حتى الآن الوصول إلى رأي قاطع بشأنها.
أن حصول تلك الرحلات يجعلنا نتساءل: هل كانت تلك الرحلات منتظمة؟ أم أنها كانت عبارة عن مغامرات فردية كحالة رحلة جلجامش في الملحمة. الإجابة تنبع من تقديرنا أن كل الأعمال البشرية تبدأ بالمغامرة والعمل الفردي ثم تتحول بعد ذلك إلى أعمال منتظمة وجماعية تستسهلها الناس والرحلات البحرية ليست استثناء من ذلك ولعل رحلة صاحبنا هي من الرحلات الفردية الاستكشافية التي يراد بها تجربة البحر وكشف غموضه فرحلة جلجامش ليست مجرد رحلة أسطورية ذات هدف ميثولوجي وليست ذات هدف فكري محض فهي على الأرجح تحمل هدفا تجاريا يستهدف البحث عن طرق يمكن من خلالها تسهيل عملية التجارة التي أخذت بالظهور والتوسع في تلك الفترة فمما لاشك فيه أهمية المعلومات التي تقدمها الرحلات البحرية التي يقوم بها المغامرون والمستكشفون لكون الرحلات التجارية كانت آنذاك محدودة ومحفوفة بالمخاطر لذا لا غرابة في قلة من يرتادها على الرغم مما تقدمه من مغريات كبيرة وبالتأكيد فان جزءا كبيرا من الغموض الذي يحيط بتلك الرحلات ناجم من محاولة التجار البحريون تغليف تلك الرحلات بهالة من التهويل والمبالغة بغية صرف الناس عنها فصاحبة الحانة التي تمثل أنموذجا لطبقة التجار حاولت صرف جلجامش عن القيام برحلة بحرية على الرغم من كلمات جلجامش المؤثرة:

آه لقد غدى صاحبي الذي أحببت ترابا
وأنا سأضطجع مثله فلا أقوم ابد الآبدين
فيا صاحبة الحانة وأنا انظر لوجهك
أيكون بوسعي أن لا أرى الموت
الذي أخشاه وارهبه

أما رد صاحبة الحانة فقد جاء بليغا ودبلوماسيا فقد قدمت له والبشرية من خلفه نصيحة مازالت ترددها العقول والألسن:

إلى أين تسعى يا جلجامش؟
أن الحياة التي تبغي لن تجد
فليكن كرشك مليئا دائما
وكن فرحا مبتهجا نهار مساء
وأقم الأفراح وارقص والعب
واجعل ثيابك نظيفة زاهية
واغسل راسك واستحم في الماء
دلل صغيرك وافرح زوجتك
فهذا هو نصيب البشرية

لكن جلجامش الذي ارهبه موت صديقه تجاهل تلك النصيحة رغم ما فيها من حكمة عاقدا العزم على المضي قدما في رحلته المحفوفة بالمخاطر لذلك كان رده على تلك النصيحة انه طلب من صاحبة الحانة أن تدله على مكان وجود اوتو نبشتم البشري الوحيد الذي نال الخلود بحسب الميثولوجيا الرافدية مؤكدا انه لن يتوانى عن عبور البحار من اجل تحقيق ذلك أما إذا تعذر عليه الوصول إلى مبتغاه فان ماساته ستكون كبيرة ولن يجد في فيما قالته صاحبة الحانة أي عزاء له بل سيفضل السكن في الصحاري على تلك الحياة الرتيبة غير المجدية.
بعد ذلك تغيرت نبرة صاحبة الحانة لتستبدل نصحها بعدم جدوى الرحلة بالتهويل والتخويف من مخاطرها الكبيرة ولعلها اعتقدت أن جلجامش كونه ملكا عاش في ظل الرفاه ورغد العيش سوف يعيد النظر في عزمه بعد أن يستوعب تحذيراتها:

يا جلجامش لم يعبر البحر قبلك احد
اجل أن شمش القدير يعبره حقا
ولكن من غير شمش يستطيع عبوره
أن عبوره شاق وعسير
وما عساك ستصنع لما تبلغ مياه الموت العميقة

هنا نجد أن صاحبة الحانة قد بالغت في وصف المخاطر التي تنتظر جلجامش عند ارتياده البحر وهذا ما نعزوه إضافة إلى العامل الأسطوري لرغبة التجار في صرف أنظار الناس عن تجارتهم حتى لا ينافسوهم عليها ومن الغريب أن صاحبة الحانة قد قدمت هذه التحذيرات إلى جلجامش الذي يعرف بالتأكيد بعض أسرار تلك الرحلات كونه ملك من مهامه التعرف على نشاطات شعبه وهذا ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأمر أخر وهو أن جلجامش كان عازما على ارتياد طريق آخر غير الطريق الذي تسلكه الرحلات التجارية وهو في العادة الطريق القريب من الساحل لذا سمع من صاحبة الحانة تلك التحذيرات التي عرضت فيها مخاطر مياه الموت العميقة كناية عن المخاطر التي تكتنفها الأعماق.
لكن ما الذي دفع جلجامش لسلوك هذا الطريق غير المسلوك سابقا؟ هل هي محاولة لاكتشاف طريق أخر غير الطريق المعتاد أم أن لجلجامش كان يبغي المغامرة كحاله في المرات السابقة أن إحدى الإشارات في الملحمة تشير إلى أن جلجامش دفع إلى سلك هذا الطريق غير المأمون لأنه الطريق المعتاد ل أور شنابي ملاح اوتو نبشتم لذلك لم يجد بدا من سلكه ( انظر الخارطة المرفقة ).
وأمام إصراره واندفاعه لم تجد صاحبة الحانة بدا من أخباره بالسبيل الذي سيوصله إلى اوتو نبشتم ناصحة إياه بمصاحبة أور شنابي الذي كان موجودا بالصدفة آنذاك وإلا فعليه أن يعود إلى وطنه.
اتجه جلجامش بعد سماعه لهذه الكلمات إلى الغابة حيث يوجد أور شنابي لكنه قبل أن يلتقيه حطم بدون وعي منه الحجر المسحور الذي يسهل على أور شنابي عبور بحر الموت وقد ساعده هذا على ما يبدوا في إقناع أور شنابي بعد أن أصبح بحاجة لجلجامش لكي يعود إلى مقر سكن اوتو نبشتم فقد كان عليهما اعتماد طريقة أخرى أكثر خطورة تعتمد على المرادي حيث يمكن للمردي الواحد دفع السفينة عدة خطوات قبل ذوبانه في مياه بحر الموت أور شنابي بحاجة لعضلات جلجامش لجمع عدد كاف من الأخشاب التي يمكن استخدامها كمرادي في دفع السفينة.
إن وجود أور شنابي المتكرر في ارض سومر هو دليل على وجود اتصالات تجارية بين سومر وذلك المكان الذي يقطنه أوتو نبشتم وإلا ما الداعي إلى تلك الرحلات الخطيرة المخيفة.

( 4)

لكن أين يقع ذلك المكان الذي يقطنه اوتو نبشتم؟ هل هو في داخل ارض سومر؟ أم هو قريب منها في إحدى جزر الخليج العربي أم في مكان بعيد نسبيا في تلك الأقاليم التي يرد ذكرها في نصوص بلاد وادي الرافدين. إن الإجابة على ذلك ترتبط بنوع الشواهد التي نمتلكها عن ذلك المركز التجاري ومن خلال دراسة متن الملحمة نستطيع أن نفترض أن يكون هذا المكان هو إحدى جزر الخليج العربي ربما جزر البحرين مثلا التي اقرنت ببلاد دلمون التي يرد ذكرها كثيرا في النصوص المسمارية ومن الشواهد التي نسوقها لذلك وجود عبادة الإله انكي ( أيا ) في البحرين وهذا الإله هو الذي أفشى سر الطوفان لاوتو نبشتم وساعده على النجاة منه وهو يؤكد الاتصالات التجارية بين المركزين ووجود رحلات بحرية بينهما حيث تؤكد الدلائل الأثرية وجود معبدين لهذا الإله في البحرين احدهما في ( دراز ) والأخر في ( ساد ) عثر فيهما على كميات كبيرة من عظام السمك التي تمثل في العادة أهم نذور هذا الإله الذي يرتبط بالمياه كذلك تعد دلمون في نظر السومريين ارض الحياة التي يعيش فيها الناس أعمارا طويلة بعيدا عن الألم والمرض وفيما إذا صدقت تحليلات المؤرخين حول كون دلمون هي جزيرة البحرين فمن الممكن ربط وجود اوتو نبشتم في هذا المكان على انه نتيجة للسمة التي تتميز بها هذه الجزيرة كأرض للحياة أما المعطى الآخر فتوضحه لنا السطور التالية التي تمثل بتقديرنا أقدم وصف مدون لرحلة بحرية عرفها التاريخ حيث تقول السطور:

انزلا السفينة في الأمواج وهما على ظهرها
وفي اليوم الثالث قطعا في سفرهما ما يعادل
شهرا ونصف من السفر العادي
وبلغ أور شنابي مياه الموت العميقة
ونادى جلجامش قائلا:
هيا يا جلجامش أسرع وخذ مرديا وادفع به
وحذار أن تمس يدك مياه الموت
أسرع وخذ مرديا ثانيا وثالثا ورابعا
وبمائة وعشرين دفعة استعمل جلجامش كل المرادي
ثم نزع ثيابه ونشرها كأنها شراع

تؤكد هذه السطور أن المسافة المقطوعة كبيرة حتى بالنسبة للقدرات المستنفرة ثلاث أيام والتي تعادل (45 ) يوما من السفر العادي لعل المقصود من ذلك السفر عبر البر لو علمنا أن طول الخليج العربي من ساحل البصرة إلى مضيق هرمز يصل إلى ( 1000 ) كيلو متر وان هذه المسافة يمكن قطعها في أسبوع فان ثلاث أيام تعني أن المسافة المقطوعة هي ( 500) كيلو مترا وهي نفس المسافة التي تفصل البصرة عن البحرين ( انظر الخارطة المرفقة ). أما القسم المتعلق بخوضهما مياه الموت منطقة فقد وصفت لنا الملحمة طريقة تلافي هذه المياه من خلال التعليمات التي وجهها أور شنابي إلى جلجامش ونفذها الأخير بكل دقة ما يجعلنا نتساءل عن ماهية هذه المياه هل هي إضافة من الراوي غرضها التهويل أم هي كناية عن المياه العميقة في وسط البحر حيث تمثل هذه المياه مصدر خطر على البحارة. أن تحديد المسافة التي قطعتها السفينة أثناء عبورها بحر الموت يعد أمرا في غاية الصعوبة ومن الناحية الوصفية يمكن أن نعد زمن ساعة كتقدير معقول لقطع هذه المياه برمتها استنادا إلى تقدير أن كل مردي يستغرق نصف دقيقة حتى يكتمل الدفع به.
كذلك يضعنا النص في مقابل تساؤل آخر عن الطريقة التي اتخذتها السفينة في رحلتها هل اعتمدت في سيرها على الأشرعة كما يحصل في رحلات مماثلة؟ أم أنها اعتمدت على المرادي قبل ولوجها مياه الموت والطريقة الأخيرة بالغة الصعوبة في وسط بحر هائج تغلفه المخاطر ويمتد إلى مسافة بعيدة كذلك نلحظ إشارة تبرز في خاتمة النص عن قيام جلجامش بنشر ملابسه كأنها شراع هل يعني أنهم لم يعتمدوا على الأشرعة قبل هذا الوقت؟
إن افتراض أن تكون الأشرعة قد اعتمدت في خاتمة الرحلة فقط يبدو غريبا إلا إذا تصورنا أنها كانت معتمدة في أول الرحلة إلى أن خاضا مياه الموت حيث تمزقت بفعل الأمواج العاتية مما اضطر جلجامش لاتخاذ ملابسه بديلا عنها وهو أمر معقول.


(5)


أما عند نزول جلجامش على بر الجزيرة أو المكان الذي يقطنه اوتو نبشتم فقد لاحظ انزعاج اوتو نبشتم من قدومه إليه وهو أمر معتاد في مثل هذه الحالات التي قد يحصل فيها بعض الأذى.
لقد وجد جلجامش والحيرة تملا وجهه أن الرجل الذي جاء لأجله لا يختلف عنه بالمرة بعد أن تصوره في عقله نشطا مفعما بالحيوية و قويا كحال من يملك الخلود الجسدي فإذا هو يجده عكس ذلك ضعيفا كسولا مضطجعا على ظهره فأدرك من فوره بؤس هذا الخلود لان خلودا مع الكسل والضعف هو أشبه بالموت بل اهو أسوا منه بكثير ما جعله يدرك استحالة الخلود الذي سيفقد قيمته فور حصوله عليه وهذا دليل على عمق الملحمة وارتباطها بفكر وادي الرافدين في تلك الفترة لقد حصل جلجامش ومن بعده قراء الملحمة على حكمة ثمينة كانت هي خاتمة رحلة جلجامش البحرية حيث نطق اوتو نبشتم قائلا:

أن الموت قاس لا يرحم
هل بنينا بيتا يدوم إلى الأبد
هل ختمنا عقدا إلى الأبد
وهل يقتسم الإخوة ميراثهم ليبقى ابد الدهر
الفراشة ما أن تخرج من شرنقتها لتبصر نور الشمس
حتى يحين اجلها
ولم يكن دوام وخلود أبدا
ما أعظم الشبه بين النائم والميت
ألا تبدوا عليهما الهيئة ذاتها

بعد هذه الكلمات عاد جلجامش إلى وطنه مشبعا بالمعرفة مقتنعا بمصيره المحتوم ولذا لم يصبه الاضطراب أو تداهمه الوساوس بعد أن فقد عشبة تجديد الحياة التي التهمتها الأفعى عند وقوفه لشرب الماء من إحدى العيون.
ومن الجدير بالذات أن حصول جلجامش على هذه العشبة جرى وفق الطريقة التقليدية المتبعة في الغوص حيث استنشق كمية كبيرة من الهواء وغاص بواسطة ثقل وضع في إحدى قدميه وعندما استقر في القاع فك الثقل واخذ يبحث عن العشبة وبعد أن وجدها عاد سابحا إلى السطح وهي الطريقة التقليدية التي يتبعها صائدو اللؤلؤ والمحار في الخليج العربي وهذه الطريقة التي اعتمدها جلجامش علمه بها اوتو نبشتم الذي يبدوا انه مطلع على أسرار هذه المهنة التي تمثل إحدى مصادر الدخل في الجزيرة وهو ما يعطينا دليلا على قدم مهنة الغوص ولعلنا لا نجانب الحقيقة إذا قلنا إن الناس في ذلك المكان كانوا يعيشون في مجتمع متمدن له أعرافه وقوانينه التي تمثل قوانين المقرات التجارية من حيث تمتعها بقدر واسع من الحرية والاستقرار مبني بدرجة كبيرة على التعاون والمصالح المشتركة في ظل نوع من السلطة التي تتيحها أوضاع المنطقة وظروفها الاجتماعية والحضارية.


نستنتج من ذلك ما يلي:

(1)أن النص الذي يتكلم عن عبور جلجامش لبحر الموت يعبر عن رحلة بحرية قديمة.
(2)أن النص الذي يتكلم عن هذه الرحلة والذي يمثل جزءا من ملحمة جلجامش يعد أقدم وصف لرحلة بحرية مدونة في التاريخ.
(3)أن هدف تلك الرحلة على وفق ما لدينا من معطيات هو جزيرة البحرين التي يرجح الباحثون أن تكون هي دلمون جنة السومريين بحسب أساطيرهم.
(4)ارتبطت الرحلة بفكر بلاد الرافدين ونزعته المادية التي ترى في الموت ناهية أبدية وخاتمة لا يمكن الخلاص منها أبدا.

وبالتالي يمكننا الاستدلال من خلال هذا النص على قدم الرحلات البحرية ذات الصفة الاستكشافية حيث تسبق رحلة جلجامش البحرية معظم الرحلات البحرية المدونة بما في ذلك أقدم الرحلات الفينيقية والإغريقية بما لا يقل عن عشرة قرون.