في السياسة الغاية تبرر الوسيلة، لكن أن يصل الأمر إلى الخداع، والضحك على الناس فهذا لا يجوز أخلاقيا، ما حدث أن الحزب الوطني الحاكم في مصر أعلن عن قائمة مرشحيه لخوض انتخابات مجلس الشعب بأسلوب غاية في الغرابة، وهو السماح لمرشحيه بالتنافس ضد بعضهم البعض، فقد قدم مئات المرشحين في نحو مئة وخمسين دائرة، ورشح في بعض الدوائر للمقعد الواحد ثلاثة مرشحين وصل إلى خمسة مرشحين في دوائر أخرى، وهو ما يعني أن الحزب سينافس نفسه، وأن أكثر من مائتين واثنين وثمانين مرشحا سيخوضون المعركة ضد زملائهم الذين ينتمون إلى الحزب، وتم استبعادهم في انتخابات صورية في المجمع الانتخابي.
عموما في السياسة، نعرف انه من غير الجائز أن يتصارع أعضاء حزب واحد من اجل الوصول إلى هدف معين، فالمفترض انه هؤلاء الأعضاء يجتمعون تحت برنامج واحد، ويتبنون أهدافا واضحة، هي أهداف الحزب، يحاولون ترجمتها إلى برامج تطرح على المواطنين، لكن في مصر كل شي جائز في نظام سلطوي، يفتقد إلى الرؤية السياسية، ويتيح حزبه للجميع على اختلاف انتماءاتهم الانضمام إليه، ويطمع بعضهم في الوصول إلى مقعد في البرلمان لتحقيق مصالحه خاصة، وبعض الطامحين في ترشيح الحزب صرف مئات الآلاف من اجل هذا المقعد، فهاهو نائب في دائرة الزاوية الحمراء يقول إنه انفق خمسمائة ألف جنية على الدعاية الانتخابية ومع ذلك استبعده الحزب.
ولسنا في حاجة إلى القول إن الحزب الوطني يستمد قوته من كون رئيس الجمهورية هو رئيسه، فهو حزب ولد في حضن السلطة عام 1978 ولا يزال بعد أكثر من ثلاثة عقود يعاني الجمود، ترتب على ذلك تدهور أدائه السياسي، وفشله في تحقيق نقلة بالمجتمع المصري، على الرغم من انه يضم بين رجاله عقولا من الصفوة الذين لديهم رؤية إصلاحية، ممن يسمون quot;أصحاب الفكر الجديدquot; لكنهم للأسف خضعوا لأفكار الحرس القديم، ونسوا مبادئهم وأفكارهم في الإصلاح، واستسلموا لاغراءت السلطة.
ما يحدث يدل على موت السياسة في مصر، وغياب الثقافة السياسية بين أعضاء الحزب على الرغم من وجود لجنة التثقيف، لا تربية سياسية ولا أخلاقية، أعضاء الحزب لا يجمعهم هدف ولا يحكمهم مبدأ، فقط مصالح ضيقة، لذلك يحدث الصراع ويتصدع البناء، وتهتز المصداقية بين أعضائه، وتتخلخل أركانه على الرغم من بلوغه مرحلة الرشد، بعد أن كان مجرد تنظيم من quot;حزب مصر العربيquot; ولد من رحم quot;الاتحاد الاشتراكيquot; بعد ثورة اثنتين وخمسين، ويثبت الحزب الوطني الحاكم بهذا الفعل المشين أنه عاجز عن حكم نفسه، وأنه مجرد quot;كوبريquot; يسعى كل واحد إلى عبوره من اجل تحقيق منافع خاصة.
أمام حالة العبث السياسي أصبحت كل الوسائل متاحة لدخول البرلمان، فقد أعلن الحزب اختيار سبعمائة وتسعين مرشحا، للتنافس على خمسمائة وثمانية مقاعد بما فيها أربعة وستون مقعدا للمرأة، وفي بعض الدوائر تجد أربعة أو خمسة مرشحين على مقعد واحد، على نمط الأحزاب المتحالفة غير القادرة على توزيع المرشحين، فتلجأ إلى quot;الدوائر المفتوحةquot; وتترك الساحة لصراع ينتصر فيه القوي حتى ولو بوسائل غير أخلاقية، لذا انشق عدد كبير من أعضاء الحزب.
بوادر هذا الاختيار العجيب واضح الآن في معارك قانونية ساحاتها المحاكم وأحدثها حكم quot;محكمة القضاء الإداريquot; بالإسكندرية، بإلزام وزارة الداخلية إعادة تسعة وستين مرشحا استبعدتهم اللجنة العليا للانتخابات، وبعض أعضاء الحزب الوطني أعلن تأييده لمرشحي أحزاب المعارضة، وآخرون استقالوا من الحزب، وصبوا جام غضبهم على النظام، ووقعت أعمال عنف بين المرشحين، وحرب كلامية تزداد اشتعالا مع قرب الاستحقاق الانتخابي، ومعظم الذين قادوا حملة تأييد ل quot;جمال مباركquot; استبعدوا من قائمة الترشيح quot; وطلع نقبهم على شونه quot; وزادت الاحتقانات بين العائلات وحتى بين أفراد العائلة الواحدة.
ما يحدث في انتخابات مجلس الشعب التي ينظر إليها على أنها الأهم في تاريخ مصر، وما ينتظر من بلطجة وتزوير ليس غريبا على بلد تدار بطريقة عشوائية في كل مناحي الحياة، في التعليم، والصحة، والإسكان، والمواصلات، وغيرها ويثبت إن الحديث عن quot;الإصلاحquot; ما هو إلا وهم كبير.
إعلامي مصري
- آخر تحديث :
التعليقات