بما يشبه المعجزة استطاعت قطر أن تنتزع بطاقة تنظيم مونديال كأس العالم لكرة القدم للعام 2022 من بين أيدي الكبار في عالمنا الراهن وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية.
استطاعت قطر الشقيقة الصغرى للدول العربية، والدولة الصغيرة مساحة وسكانا وتاريخا وجغرافيا أن تحقق ما عجز عنه الكبار، وأن تنقل للمنطقة العربية في شرقها الخليجي فعاليات أكبر بطولة يتابعها العالم على كوكب الأرض، واستطاعت أن تضع نفسها في قلب الحدث الرياضي، وفي حضن الإعلام بمختلف وسائطه مدة 12عاما على الأقل حتى قيام البطولة، وفي حضن التاريخ الرياضي إلى الأبد.
قطر فعلت ما عجز عنه الكبار، سواء على مستوى العراقة والتاريخ، أم على مستوى التقدم التكنولوجي، فهي لم تحصل على (صفر) في الاستفتاء على المونديال، ولم تخش التوجه إلى هذا المحفل الدولي الرياضي (الفيفا) لتسعى لانتزاع هذه البطاقة التاريخية، ولم تتردد في كونها دولة صغيرة الحجم، لتتحدى دولا عملاقة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وإسبانيا، وغيرهما.. إنما تقدمت بملف قوي للغاية فنيا وتقنيا وإبداعيا، تقدمت بثقة لتبرز للعالم وجهها الجديد المبني على التسامح والحوار والتحضر، وجهها الواقعي الذي سعت إلى تكريسه منذ تولي الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني مقاليد الحكم في البلاد ( 27 يونيو 1995) ، وهو وجه يقوم على مبدأ : فن الممكن، لا فن الاحتمالات والتخيلات والعنتريات.
وعلى الرغم من الاختلاف الكبير الرسمي الذي أبدته بعض الدول العربية مع الشقيقة قطر من ناحية قيامها بتصرفات اعتبرت غير مسؤولة كفتحها مكتب تجاري للدولة العبرية، وانتقادها لبعض الأنظمة العربية عبر قناة الجزيرة، ودعوتها للحوار مع أطراف خلافية مع العرب مثل (إيران) وفتح قاعدة السيلية للأمريكان في وقت الغزو الأمريكي للعراق، إلا أن قطر كانت ترسم واقعا لا يمكن تصديقه، واقعا كان يجري تحت الطاولات، وكان يخط أوراقه في مأساتنا العربية المستمرة، فهي فعلت في العلن ما تفعله دول أخرى في السر، وهذا أعطاها قدرا من المصداقية على المستوى السياسي، فهذا هو الواقع الحقيقي، وهذا هو الممكن.
قطر ابتعدت كثيرا عن السياسة التقليدية العربية، نظمت المؤتمرات الكبرى، حاولت أن تحل قدرا من المشاكل العربية العتيقة الكثيفة في عدد من الملفات في سورية ولبنان والسودان وبعض القضايا الإسلامية، قطر قدمت تجربة إعلامية زاهية جريئة حرة هي تجربة:quot; قناة الجزيرةquot; وهي تجربة لم تعتدها الأنظمة والشعوب العربية، تجربة أسهمت في تطوير العمل الإعلامي العربي صوب المصداقية، تجربة إعلامية منهجية فذة، تابعها العالم وأشاد بها بكل اقتدار.
هذه التجربة دفعت قطر إلى أن تتبوأ مكانة مثلى عربيا وعالميا، تفوقت بها قليلا على جيرانها، وأشقائها في مجلس التعاون الخليجي، على الرغم من أسبقية التجربة الكويتية التي بدأت في الازدهاء منذ ستينيات القرن العشرين، و التجربة البحرينية والإماراتية في عالم السياحة والتجارة والاقتصاد الحر.
قطر اتجهت إلى تحرير الإعلام وتحرير الاقتصاد، وهي في سبيلها لتحرير ثقافة الإنسان ووعيه، بحيث يشعر أن العالم أوسع مما تشكله الفتاوى البائدة، وأن العالم أوسع من عالم السحر والدجل والشعوذة والأساطير، والتمر، والسواك، واللحى، وقطع القماش السوداء، ولعق الأصابع، وأن العالم أوسع من البكائيات على الأطلال التاريخية والشخصية والأضرحة والسراديب القديمة والمنتظرة.. العالم اليوم هو عالم التقنية، والأرقام، والتكنولوجيا والقيم الثقافية القائمة على التواصل والتفاعل والإسهام الفعال في الحضارة، وهو ما تنتبه إليه قطر في السنوات المقبلة التي ستستثمر فيها الكثير من المشاريع العمرانية والتنموية وإنشاء الفنادق، والمطاعم، والقرى السياحية، والملاعب الرياضية الكبرى.
قطر بهذا الفوز الإعجازي التاريخي تؤكد على أن من يمضي في درب الاجتهاد الحقيقي يصل، ومن يعمل بجد وإخلاص يمكن له أن ينال مطلبه.. قطر اليوم على الخارطة العالمية بهذا المونديال الكبير الذي سيجعل التاريخ يتوقف للتأمل مدة 12 عاما مقبلة ليتابع أخبار قطر، وتحولات قطر، ومواقيت قطر التي تضبط الآن على إيقاع هذه البطولة المونديالية التي ستسعد بها الأجيال المقبلة في العالم العربي .. هنيئا لقطر على هذا الإنجاز وشكرا من القلب لكل من أسهم في وضع هذه الابتسامة المونديالية على وجه العرب الحزين.