مع اتساع نطاق الإعلام وتعدد وسائطه المسموعة والمرئية والمطبوعة، ودخول آليات تقنية جديدة منذ أكثر من عقد تتمثل في الصحف الالكترونية والمنتديات والمواقع الإخبارية وغير الإخبارية على شبكة الإنترنت، أصبح دور المحرر الصحافي دورا مسؤولا، دورا يبحث دائما عن الخبر الجديد ويتابعه، ويمحص في تفاصيله. خاصة حين يحقق به أسبقية ما في عصر إعلامي تنافسي خلاق.
لقد كان دور الصحافي قديما يتمثل في نشر الأخبار، والكتابة والتعليق عليها، كانت عبارة quot; فلان الفلاني يكتب لكم من باريس أو روما أو لندن أو موسكو أو واشنطن quot; تحقق قدرا من الانتصار للصحيفة وللمحرر الصحافي. أصبحت هذه العبارة اليوم عبارة عادية، حيث باتت الأرض عبارة عن غرفة إخبارية صغيرة، تجوس في جدرانها، وتعلق بستائرها، وتتمطى على سريرها آلاف الأخبار اليومية تبث من جهات الأرض جميعا، مرفقة بالصور الحدثية التي تعبر عن حدث ما، أو مناسبة ما.
لقد سهل الواقع الرقمي التقني من مهمة العمل الصحفي كثيرا، وسهلت الشبكة العنكبويتة من متابعة الأحداث والوقائع بمختلف أنماطها، من عروض الأزياء إلى الوقائع الحربية، ومن تغطية الاتفاقيات الاقتصادية إلى المهرجانات السينمائية والمسرحية ومن البطولات الرياضية المتنوعة إلى اللقاءات السياسية والثقافية والمناسبات الاجتماعية. هذا التنوع الكبير أعطى قدرا كبيرا من التفاعل والتواصل الإنساني.. فنحن حين نقرأ عن أزمة عمال المناجم في تشيلي، نقرأ خبرا آخر عن قتلى رهائن الكنيسة في بغداد، في حين نطالع مسابقة ملكة جمال الكون، أو الأزمة بين روسيا واليابان أو متابعة قضايا الطرود المفخخة، أو فوز امرأة بكرسي الرئاسة في البرازيل.. أخبار متنوعة تعبر عن الدراما الإنسانية، عن الأفعال المتنوعة للإنسان خلال إقامته على الأرض.ز هذا التنوع هو الذي يشكل الأفق السردي للصحف اليوم بكل أنواعها ورقية أم الكترونية أم مرئية.
إنه العالم الهائل الذي يطل منه الصحافي على دراما الإنسان، وبالتالي يسعى هو نفسه إلى صنع الدراما الخاصة به، في انتقاء الخبر أو الحدث، وفي كيفية تقديمه لجمهور القراء أو المشاهدين.
وتتبدى المسؤولية الصحافية هنا في مدى الجهد الذي يبذله الصحافي في استقصاء الخبر أو الحدث، والبحث عن أسبابه، وآثاره ونتائجه، الصحافي اليوم لم يعد يستعمل الطريقة القديمة، أن يصله الخبر بالفاكس أو الإيميل من جهة ما أو مؤسسة ما، أو حتى شخصية ما، ثم يقوم هو بوضع اسمه ونشره دون إعادة قراءة وإعادة تحرير وكتابة. هذه الطريقة ndash; فيما أعلم- كانت متبعة وإلى اليوم في عدة صحف عربية، وبالتالي فإن الصحافي هنا يقوم بدور طبيب التخدير بشكل مباشر أو غير مباشر، خاصة حين تكون مضامين الخبر تحمل وجهة نظر مؤسسة رسمية، أو تحمل نظر السلطة، ويصبح دور الصحافي هنا مجرد ناقل، مجرد تابع ذهنيا للمؤسسة. وهذا دور لم يعد يليق تماما بالصحافي اليوم.
كذلك لم يعد الصحافي يمارس دورا تجميليا وتزييينيا وديكوريا. لقد انتهى زمن البهرجة الإعلامية، أو ما يسميه بعض الإعلاميين ذوي النفوس الضعيفة بquot; التلميع الصحفيquot;، وهو عادة كان يجري ndash; ويجري- لشخصيات في السلطة أو المؤسسة الرسمية.
إن دور الصحافي أصبح دورا كاشفا، وما نراه في الصحف الغربية مثلا يومىء إلى هذا الدور الكاشف الذي يقدم الوثائق والأدلة الحية على قضية ما، فكم من صحافي أسقط مسؤولا، وكم من صحافي كشف عن وثائق سرية، وكم من صحافي كشف عن المسكوت عنه، وكم من صحافي طرح قضايا مهمة في دائرة الضوء.. فهل الصحافي العربي ndash; على الأغلب- يمارس الدور نفسه؟
في مجال الصحافة الثقافية الذي أنتمي إليه، ما يزال بعض المحررين الصحفيين يعلقون على أمسية ثقافية ما أو شعرية بأن فلان الفلاني عطر سماء مدينة كذا بالشعر، وأن فلان الفلاني يتدفق سرديا كالموج الأزرق، وأن الكاتبة الفلانية تكتب بحبر الدهشة، وما زال بعض المحررين الثقافيين يكتبون غزلا ونسيبا في بعض المؤلفات والكتب، وما يزال بعض المحررين الثقافيين يجون مقابلات صحفية مع كتاب وأدباء ومثقفين من باب المجاملة والتعارف الاجتماعي لا من باب الكشف والبحث.
ما يزال المحرر الثقافي في صحفنا العربية يتوجس من المواقف، يمارس أيضا بشكل أو بآخر شللية ثقافية، حين ينشر أخبار هذا، ويرفض نشر أخبار ذاك، أو حين يوسع من مساحة الصفحة لتغطية ندوة أو أمسية، ويقدم ندوة أخرى في سطرين !!
قد تكون مسألة الأأهمية والشهرة والوجاهة مقدمة في مجال العمل الثقافي الصحفي، لكن: من هو المحرر الذي يقوم بالكشف عن تجربة جديدة؟ أو يقوم بالكشف عن تيار أدبي أو مدرسة فنية أو إبداعية؟ ومن هو المحرر الثقافي الذي يتابع الفاعليات الثقافية برؤية إعلامية مختلفة بحيث لا يكون مجرد آلة تصوير للحدث أو المناسبة؟
إن الصحافي الحق في هذا المجال هو من يستقصي، ويضيء، ويفجر، ويغير، ومن دون هذه الأفعال سوف يصبح مجرد بوق، ومجرد تابع ذهني يموت بموت المناسبة، وموت الحدث.