حملت ثمانينيات القرن العشرين هذه الظاهرة التي نعايشها اليوم في العالم العربي، وهي ظاهرة التدين، لا أتحدث هنا عن الأسلمة أو الأصولية، ولا أتحدث عن الجماعات المتشددة، أو الإسلام السياسي، أو الجماعات المتطرفة والإرهابية، وكلها ظواهر نبتت من هذا اللا- فكر المتشدد الذي ضيق علينا كمسلمين أحوال الدنيا بأهوال الآخرة، وقص ريش العقل والفكر والإبداع، وجعل ما يسمى بالرقيب والعتيد في المخيلة التأويلية الإسلامية من ندماء مجالسنا، ومن أصدقاء حياتنا اليومية اللدودين. ومن لابسي الأبيض وراكبي الأحصنة في أحلامنا وكوابيسنا!!
أتحدث هنا عن التدين بوصفه موضة، تسربت إلى المجتمع العربي، دون ابتكار تأويلي جديد، ودون إعمال العقل الذي يقود إلى تفكير ديني متقدم، يرفض التلسيم اليقيني، ويطرح التساؤل والتفكير الذي جاء به القرآن الكريم.
أول ظواهر التدين ndash; حسب المفهوم الذي جرى في ذهن الناس، وأيده المتشددون- يتمثل في إطلاق اللحية وحف الشارب، وكأن هذه الصورة هي التي تفرق بين المسلم المتدين الملتزم، والمسلم غير المتدين أو الفاسق، وكأن هذه الصورة للرجل هي جواز المرور إلى التدين، وهي جواز المرور أيضا للتعامل مع quot; الإخوةquot; الذين لهم عالمهم الخاص، وتعاملاتهم الخاصة، حيث يتحدثون بالعربية الفصحى، ويتاجرون وفقا للمعاملات الإسلامية، ويتزوجون بالأربع، وهي أيضا العنوان الديني للرجل، حيث يطلق عليه ألقاب عدة في الشارع العربي: الحاج، السني، الشيخ، المطوع، الملتزم، وهي مسميات ينال بها صاحبها حظوة اجتماعية، ويتم التعامل معه معاملة خاصة في الأماكن العامة التي يرتادها، وتصبح كلمته وثيقة، مسموعة، مؤكدة على الرغم من أن التجارب والأحداث تثبت كثيرا عكس ذلك. هذا بالنسبة للرجل.
أما المرأة فحجابها أو نقابها هو ميسمها الديني، خاصة حين تشدد على نفسها أكثر وأكثر، فترتدي الجوارب السوداء، والقفازات السوداء، والنظارة السوداء أو الطرحة ذات الثقوب الضيقة جدا تحت النقاب حتى لا تظهر عيونها، أو ترتدي ndash; كما أوصى بذلك أحد الشيوخ في فتواه- نقابا لا يظهر سوى عين واحدة تكفي لرؤية الطريق، ومتابعة العالم.
والمرأة بهذه الصورة هي :quot; الأختquot; في الله طبعا، وهي الأكثر تدينا، بعيدا عن صاحبات البنطلونات، أو الميني جيب، أو الفساتين الضيقة، فهؤلاء لا ينطبق عليهن التدين، هؤلاء كاشفات، حاسرات، كاسيات عاريات، ليست لهن علاقة بالدين، وهن أكثر أهل النار!!
هكذا هي الصورة الأولى للتدين في المجتمع العربي، وهي صورة كما يبدو لنا تتمسك بالمظهر لا بالجوهر، خاصة إذا أضفنا الجلباب للرجل، ولابد أن يكون أبيض، مع أن زي أهل الجنة في القرآن الكريم بالألوان الطبيعية، كما أنه لابد أن يكون قصيرا نوعا ما، أما المرأة فيستحسن أن يكون زيها أسود.

وتحمل سمات التدين أيضا أن يتحلى وجه الرجل بعلامة الصلاة، ويسمونها في مصر ndash; مثلا- بquot; زبيبةquot; الصلاة، كما أن تقصير شعر الرأس، والتكحل، وارتداء خواتم الفضة، واستعمال الحناء من الأمور المحببة، كما تتصل موضة التدين باستخدام أدوات معينة للرجل والمرأة، حيث: حبة البركة، والولائم والذبائح، والسواك، والكحل، والعطر الإسلامي كالمسك والعود والزعفران، ولبس الخواتم في الإصبع الخنصر، والحجامة، وصبغ الشعر أو اللحية بالحناء، وعدم استخدام الشوك والملاعق والسكاكين في الأكل بل الأكل باليد مباشرة، ولعق الصحون بالأصابع بعد الأكل، والدخول بالقدم اليمنى، والخروج بالقدم اليسرى، وإلقاء السلام على الإخوة، وعدم رد السلام على غير الملتحين من الرجال المرد!!

كما تحمل موضة التدين استخدامquot; العقيقةquot; للمولود بدلا من حفل السبوع، وإقامة العرس الإسلامي والزفاف بالدف، وتحجيب العروس، بدلا من الموسيقى الماجنة، والرقص الشرقي الماجن، والبوفيهات المفتوحة الحافلة بالحلوى الغربية والشرقية.
ومن موضة التدين أيضا التي طالت الأزياء والشكل، والتعاملات اليومية: تسمية المحلات والأسواق بتسميات إسلامية كما ثبت في الذهنية المتدينة اليوم: مثل: محلات الخير، والصفاء، والصفا والمروة، وزمزم، والقبلتين، أو :quot; السلام: شوبنج سنتر لملابس المحجباتquot;، أو التوحيد والنور، وانتشر ذلك في مختلف المجالات، من المدارس إلى الورش، ومن الشركات إلى بيوت الأزياء الإسلامية، والكوافير الإسلامي، وربما يظهر أيضا قريبا فن الباليه الإسلامي، كما تجلت الموضة في تسمية المواليد باسم: فاطمة، وهاجر، وإسراء، وعبدالرحمن،... إلخ، وافتتاح البنوك أقسام المعاملات الإسلامية، مع أنها لا تختلف كثيرا عن المعاملات المالية الأخرى، لكن يحسن لها أن تتخذ ولو اسميا مسميات مثل: التورق الإسلامي، وقروض اليسر، وبيت الخير، وقرض البركة، مع أن القروض تحسب عليها فوائد مثلها مثل القروض الأخرى.
ومن المعاملات اليومية إلى التقنية: حيث الفضائيات الدينية، والجوال الإسلامي، والبوصلة الإسلامية، إلى الثقافة والكتابة كالأدب الإسلامي الذي يتسم بأدوت فنية بسيطة وبقيم أغلبها موجه للأطفال، والأناشيد الإسلامية التي يكتبها مجموعة من متوسطي الموهبة، وشريط الكاسيت الإسلامي ذي الأصوات الزاعقة أو الباكية، والسي دي الإسلامي، والنت الإسلامي حيث الجهاد الالكتروني، والإعلام الإسلامي حيث استثمار الفضائيات بعد أن كانت محرمة شرعا.
هذه موضة هذا الزمان الذي نحياه، الذي فتح المجال لتدين أغلبه شكلي، سطحي، لا معرفي، لا متسائل، لا مفكر، لا مفسر، مجال ينهض على التسليم والطواعية، والسير في ركاب دعاة لا يقومون سوى بحكي قصص الماضي التليد بحركات مسرحية، وبإطلالة هادئة جدا وقاتلة، كأن كل قضايا العالم وأزماته، محلولة، وكأن كل الأزمات الطاغية من البطالة والفقر والجوع والمرض لم تعد موجودة.
هذه موضة التدين التي نحياها، حيث لا تقدم علمي أو حضاري، ولا تقدم فكري أو فلسفي، وحيث الإبداع محاصر، والمفكر مكبوت، والباحث مرجوم مطرود.
إنها نعمة موضة التدين.. التي تحف بالجميع. وحسبنا الله ونعم الوكيل!!