كان الفنانون المصريون في الفرق التمثيلية مطالع القرن العشرين يطلقون على العرض المسرحي مسمى:quot; مسخرةquot; وهذا المسمى لا يعني بالضرورة الجانب السلبي، بل يعني نقد الواقع، بما فيها من مفارقات وأحداث ومواقف، والسخرية منه عبر مشاهد تمثلية ومناظر مسرحية مؤلفة. وقد كانت المسخرة تضم فنونا شتى من الرقص والغناء والتمثيل والإلقاء، واليوم ومع مرور عشرات العقود تغيرت دلالة الكلمة لتتخذ معنى الشائعة أو الفضيحة أو التجريس، وهي معاني ينحتها الوعي الجمعي للشعوب من خلال معايشة مآسي الواقع وتحولاته.
ومن هذه المآسي ما يحدث في السنوات الأخيرة من شيوع ظاهرة فوضى الفتاوى، وجنوحها إلى ملامسة كل الظواهر في الحياة اليومية للعرب والمسلمين، ولأن من يتقدمون للفتوى لم تعد تهمهم مسألة الحفاظ على صورة الدين الإسلامي، وكيانه، وأسسه، وشعائره قدر ما يهمهم الظهور في وسائل الإعلام وتصدر النشرات والأخبار في الفضائيات و الصحف الورقية والالكترونية، فإن أوكازيون الفتاوى بدأ في التمدد والانتشار وأصبحت الفتوى وهي ndash; بمعنى ما- النموذج الأعلى لصورة التفكير الفقهي ndash; مضمارا للسباق بين كل من هب ودب من الدعاة وطلاب العلم الشرعي والشيوخ والمقرئين والمؤذنين وكل من يلتصق بالمؤسسة الدينية في البلاد العربية خاصة، ولم تعد الفتوى قاصرة على كبار الفقهاء، بل أيضا على أمراء الجماعات الدينية المتطرفة، ودعاتها المنتسبين إليها.
أصبحت الفتوى اليوم أشبه بالمسخرة التي يؤديها الممثلون وهم يلعبون أدوار المفتي، فيما إن المفتي الرسمي لا حول له ولا قوة، فلا مفتي الديار استطاع أن يوقف هذا الأوكازيون والعاملون فيه، ولا كبار العلماء الأجلاء والفقهاء المعتبرون وقفوا وقفة حازمة مما يحدث من فتاوى تتحدث عن مفاخذة الطفلة، وجواز زواج الطفلة إذا تحملت الوطء، وإرضاع الكبير، وتحريم ممارسة الرياضة للبنات، وجواز التنقنع بالنقاب وكأن من يرتدينه ذاهبات إلى حفلة تنكرية في بلاد الغرب والشرق على السواء.
لقد فتح المجال لمدعي الفتوى بسبب حالة التردي التي تعيشها الشعوب العربية في ظل غياب المشروع القومي، وفي ظل غياب الطموح العلمي، وفي ظل التبعية التي أنتجت عصر القطيع، وفي ظل غياب السؤال الثقافي والفكري العميق، وفي ظل تدهور العملية التعليمية التي أنتجت لنا أصحاب شهادات جدد في جامعات كانت عريقة، أو في جامعات وكليات (تيك أواي) يحملون درجات علمية كبيرة لكنها في أغلبها دون عبقرية، ودون مستوى معرفي متميز، يبحثون عن الوظيفة لا عن التجديد، وعن الراتب الشهري لا عن الإنجاز.
كما دارت حول الرقية الشرعية، والتلبس بالعفاريت، والدعوة على الخصوم، والحسد، والعين، وفك السحر سواء مغربيا أم شاميا أم حتى فرعونيا، كما دارت حول عالم القبور.
ولم تترك الفتوى المأكولات والمشروبات، فهناك فتاوى تحلل إنتاج شركات معينة، وهناك فتاوى أخرى تحرمها، وأصبحنا تقرأ فتاوى متعددة تمثل مسخرة عصرية بكل معنى الكلمة فتاوى من البيبسي والكولا إلى حبة البركة والخشاف، ومن الهمبرجر إلى ساندويتش الطعمية، ومن بول الإبل إلى الكولونيا، ومن دهن العود إلى العطر الفرنسي، ومن استخدام الدف إلى الساكسفون والبيانو ولم يترك أوكازيون الفتاوى حتى سجود اللاعبين في ملعب كرة القدم والتعبير عن فرحتهم بالسجود.
والطريقة المتبعة في الفتوى هي قياس الحدث الراهن على زمن الماضي الصحراوي، وعلى بعض عادات الرسول الكريم(ص) العربية، وهي عادات وتقاليد كانت متبعة لدى المسلم والكافر على السواء وليس لها صلة بالدين الإسلامي، مثل: تربية شعر الوجه، وإطالة شعر الرأس، وتقصير الثوب، وتغطية رأس المرأة وهي عادات قبلية صحراوية لا دخل للإسلام بها، ويقوم المفتون اليوم بالقياس على الماضي لإثبات شرعية فتاواهم، وهذا القياس محل سؤال كبير يرتبط بتغير قيم العصر والزمان والمكان والناس، ليس مجاله الآن، لكن ما يوجع القلب أن هذه الفتاوى اليوم تسيء للدين الإسلامي، وعظمته، وصورته العقلية الفكرية الأصيلة.