تواترت الأنباء هذا الأسبوع أن المغني المصري تامر حسني وقع عقدا مع إحدى شركات إنتاج وتعليب المسلسلات الرمضانية يحصل بموجبه على (80) مليون جنيه مصري بالتمام والكمال نظير قيامه ببطولة مسلسل يبث في شهر رمضان 1432هـ (أو رمضان 2011 كما يريد أهل التوفيق في الحلال بين التقويمين الهجري والميلادي).
وبعد أن تداولت الصحف الخبر وإحداثه الضجة المطلوبة بين جمهور القراء، قام تامر حسني بنفي الخبر، فيما أكدت المسؤولة الإعلامية بمكتبه صحة الخبر، وفسره بعض المتابعين للشأن الغنائي بمصر أنه جاء ردا على تقاضي المغني عمرو دياب لمبلغ 40 مليون جنيه مصري للقيام ببطولة مسلسل رمضاني أيضا.
هذه الملايين المبعثرة بين حناجر المغنين تشكل أمرا خطيرا لا سابق له، فهي تعني هنا أن الاهتمام بمجال الغناء في أي لون أو أي شكل أو أي صوت بات من سنن الحياة العربية الدنيا، وأن هذا الاهتمام الذي تنفق عليه كل هذه الملايين أصبح يشكل توجها أساسيا لدى رجال البزنس، وأن هذه الملايين جاءت بشكل سهل وميسور، لأن إنفاق 120 مليونا من الجنيهات على مغنيْن فقط ، معناه أن هذه الملايين لم تأت بطرق شرعية، بل جاءت بطرق غير شرعية سهلة، وبالتالي تنفق في سفسف الأشياء.
إن إنفاق هذه الأموال في بلد يقال عنه أنه بلد البسطاء، وأنه يمر بظروف اقتصادية صعبة يعني أن هناك أكذوبة في هذا الأمر، فالسيدان تامر حسني وعمرو دياب ليسا من العلماء والمبتكرين، ولم يقدما مشروعا لتنمية الدولة، أو مشروعا إسكانيا ضخما لتعمير الصحراء ونقل سكان وادي النيل بمصر إلى حياة أخرى بعيدا عن التكدس (2 مليون في الكيلو متر المربع أحيانا) والزحام والتلوث والضجيج والصخب والعنف، ولم يبتكرا مشروعا للصعود إلى الفضاء، أو لإبطال مفعول القنابل النووية التي تمتلكها إسرائيل.. الرجلان لم يقدما ذلك، لا في مجال العلم وصناعة الحياة والعناية بالفقراء والمساكين وأهل السبيل، ولا حتى في الغناء، فالمغنيان ليسا هما عبدالحليم حافظ أو فريد الأطرش، وليسا هما سيد درويش ومحمد عبدالوهاب ، بل هما مغنيان مثلهما مثل أي مغن آخر في عالم اليوم حيث الأصوات المتشابهة، والأنوف الخنف، والبحّات المصطنعة، والحناجر الركيكة التي نراها في عصر الفيديو كليب.
والرجلان ليسا عصاميين ، كي نقول لهما : ألف مبروك على هذا الاستحقاق المادي القادم من ميزانيات بلهاء وحمقى، ولن نكرر لهما المثل المصري:quot; رزق الهبل على المجانينquot;،ولم يكدا في حياتهما كي نقول لهما : تستحقان والله، هذا نصيب من يتعب ويكافح في الحياة، فهما لم يركضا وراء باص مزدحم، ولم يسيرا على سقالة خشبية معلقة في واجهة الطابق العاشر في إحدى البنايات، ولم يقفا في طابور الخبز، أو طوابير الفول والفلافل، ولم يخرجا في تظاهرة من أجل شراء كيلو لحم حتى لو كان فاسدا، ولم يبيتا في غرفة رطبة تحت السلم على الأرض تتسع بالكاد لعشرة أشخاص، ولم يجلسا سنوات مديدة في حالة بطالة بحثا عن عمل كملايين الشباب في مصر، حتى إن أحدهما لم يؤد الخدمة العسكرية التي يخدم فيها معظم الشباب المصري.
فالرجلان صعدا في سنوات الهناء والسعادة، حيث لا حروب ولا بيانات عسكرية، وحيث لا فساد ولا رشاوى، وحيث لا وزراء جدد ولا تغيير، وحيث ارتفاع أسعار الغناء ، فبعد أن كانت الدقيقة بقرش صاغ في زمن أم كلثوم وعبدالوهاب أصبحت الدقيقة بألف دولار في زمن عمرو دياب وتامر حسني ومحمد حماقي ونانسي عجرم وهيفاء وإليسا وشعبولا، وبعد أن كان المطرب يقطع المسافات على ظهر حمار أو بغل حتى يصل إلى مكان الغناء وهو عادة عرس أو حفل طهور (ختان) أصبح اليوم يمتلك عدة سيارات، ويتنقل بالطائرة بمقاعد ال VIP كما أصبح له مدير أعمال، وسكرتارية، ومنسق للشعر، ومرتب للأزياء، وكونسلتو طبي، وبودي جارد، ومجلات تنشر صوره بالنيو لوك الجديد، ومحطات فضائية تبث أغانيه أو بحّاته، وأصبح له تترست، وفاترينست، وكاميرا مان، وسيناريست، وتايبست، وانتقل هو نفسه إلى أرتست.
سوف يجاهد الرجلان في العمل الشاق جدا بالمسلسلين الرمضانيين، وسوف تبتهج الأمة في مشارق الأرض ومغاربها بهذين المسلسلين حيث سيصدح فيهما رجل ب 40 مليون، ورجل آخر ب 80 مليون، سوف يراقبهما الناس وهما يروحان ويجيئان ببنطلونات الجينز الضيقة الساقطة، وبالقمصان المشجرة المفتوحة، وبالفراشات التي تلهو في أعشاب صدريهما، وبالسلاسل الذهبية التي تتدلى من رقبتيهما.
فالرجلان يستأهلان هذا كله.. أما رجل الشارع الذي قد يفكر قليلا في ال 120 مليونا من الجنيهات، لن يموت غما وكمدا وغيظا، لأنه قد يمكث في الخدمة الوظيفية عشرات السنين، ويصادق أبي الهول في صمته ولا يستطيع بلوغ المائة ألف جنيه، فمال البال بهذه الملايين الضخمة، لذا فهو لن يطالب حكومته بالمعاملة بالمثل، فهو لا يمتلك صوتا ببحة، أو حتى صوتا انتخابيا حقيقيا، أو حنجرة تتسع لها مساحات في الفضائيات، ولن يطالب حكومته بالاهتمام بالصحة العامة في القرى، أو بخفض أسعار السلع اليومية الحيوية، أو بابتكار وظائف للعاطلين عن العمل، أو بتعيين خريجي الجامعات في وظائف ملائمة، أو بحل مشكلة الإسكان، أو بالعناية بالأحياء الشعبية التي لا يطاق تكدسها، فقط سوف يطلب منها تحليل السرقة.. وأن تصبح على جدول أعماله اليومي حتى يجد قوت يومه، وقوت أطفاله الصغار.