يعتقد السائرون وراء الرغبات العاجلة من أن كل كمال يرافقهم أو كل مجد يدنو منهم ماهو إلا تحصيل للأسباب التي ظهرت نتائجها في مخيلتهم واستقرت في تفكيرهم دون النظر إلى شرعية الوسائل التي تدخلت في إيجاد كمالهم ومجدهم، وهذا ما تسفرعنه الحقائق التي نألفها بغض النظر عن الدخول إلى فلسفتها أو عرضها على من هم أولى بتحليلها، والحياة ما تزال ترفدنا بأمثلة ونماذج كثيرة يتبين لنا من خلالها كيف أن الله تعالى قد ختم على قلوب أصحابها حتى أصبحوا من الخاسرين، كما في قوله تعالى: (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين) فصلت 23. وقوله: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً***الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً) الكهف 103-104.
ونحن بطرحنا هذا نريد أن نبين أن النجاح لا يتأتى إلا بالطرق الوسطى التي يرتضيها الله تعالى، بدليل أن هناك من يبذل جهوداَ لا حدود لها إلا أن الفائدة التي يحصل عليها لا تعادل تلك الجهود وهذه الحقائق ظاهرة أمامنا والقرآن الكريم يشهد لذلك، كما في قوله تعالى: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً) الزخرف 32. وكذا قوله: (ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم) الأنعام 165.
فإن قيل: هل أن هذا التفاضل لايمكن أن يتحقق إلا إذا ترتبت عليه مشروعية الوسائل؟ أقول هذا هو الأصل الذي تبنى عليه المعطيات الربانية وبخلافه قد يتضمن عطائه للعقاب المستحق سواء كان ذلك العقاب عاجلاً أم آجلاً، كما أشار تعالى إلى ذلك حكاية عن قوم قارون بقوله: (لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين***وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) القصص 76-77. وبعد هذا التوبيخ الذي تلقاه قارون من قومه أجابهم كما في قوله تعالى: (قال إنما أوتيته على علم عندي) القصص 78. ثم عقب تعالى رداً عليه وجرياً على غيره بقوله: (أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) القصص 78.
وهناك قصص ومواقف أخرى في القرآن الكريم يتميز من خلالها أصحاب الاعتقاد الجائر، كما في صاحب الجنتين الذي أشارت له سورة الكهف، وأصحاب الجنة في سورة القلم، وهذه الاختلافات لا يمكن أن تكون وليدة مرحلة بعينها وإنما هي أشبه بالسنة المتجددة التي ظهرت على الأرض منذ أن استقر الإنسان فيها وأخذ يعتمد على الاتجاهات البينية التي يستظل بها، حتى يكون وجوده مقروناً بالأسس التي يسير إليها، ولهذا أراد أن يكمل رحلته في شتى الاتجاهات، كما بين ذلك تعالى في قوله: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) الإنشقاق 6. والآية آنفة الذكر لم تحدد الاتجاهات التي يكدح إليها الإنسان أو نوعيتها، ولكن الذي يظهر فيها جلياً يفهم من النتيجة التي أشارت لها في قوله تعالى: (فملاقيه) وبهذا تظهر النكتة من قوله: (إلى ربك) دون أن تبين صحة الإتجاه أو عدم صحته فتأمل.
من هنا تظهر الأسباب التي أدت إلى اختلاف الاتجاهات والسبل التي يتبعها الناس الذين هم خارج الدائرة الإيمانية، لتتقابل جميعها مع سبيل واحد هو سبيل الله تعالى، فيكون المعتمد هنا إما اتباع تلك السبل أو اجتنابها وأخذ السبيل الذي لا يتجزأ ولهذا صحت المقابلة في قوله تعالى: (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) الأنعام 153. والمعنى ظاهر في جمع السبل مقابل سبيل واحد هو سبيل الله تعالى. فإن قيل: ماذا عن السبل التي جمعت ونسبت إليه تعالى في قوله: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) العنكبوت 69. أقول: لم يجمع تعالى سبله في الأنعام مقابلةً مع السبل الأخرى لأنها خارج الدائرة الإيمانية، أما آية العنكبوت فهي لا تشير إلى مقابلة بعينها وإنما أظهرت تعدد الأبواب التي يدخلها المتقون بقرينة الهداية كما في قوله تعالى: (وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا) ابراهيم 12.
وبناءً على ما مر نكون قد توصلنا إلى أن الحياة الدنيا تعتمد على اختلاف الفريقين إلا أن هذا الاختلاف لا يمكن أن يكون خارج المشيئة الإلهية، وإلا لكان التقدير بعيداً عن الحكمة الربانية إذا ما وكل الإنسان بتدبير أمره، ولو فرضنا أن هذا التدبير يمكن مرده إلى أكثر من قوة فهنا لابد من إفساد السماوات والأرض وانتفاء كل شيء في الكون، كما قال تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) الأنبياء 22. وهذا هو الميزان الذي تسير الحياة بموجبه دون المساس بالوسطية التي ارتضيناها بين الجبر والتفويض، والتي تبينها آيات كثيرة كما في قوله تعالى: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) الأنفال 24. وقوله: (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) الإنسان 30. وكذا قوله: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً***إلا أن يشاء الله) الكهف 23-24.
من هنا نعلم أن يد الله تعالى هي التي تمد الفريقين بما يتناسب والقابل الذي وهبه الله تعالى للإنسان، دون المد الذي يفضي به إلى سلب مستحقات الحياة والأسس التي بنيت عليها، وأنت خبير بأن هذا المد سيكون هو السبب في صرف الناس إلى ما يخالف منهج الله تعالى، واجتماعهم على أمة واحدة، كما بين ذلك تعالى بقوله: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون***ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون***وزخرفاً وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين) الزخرف 33-35. ولهذا فإن المد الإلهي والعطاء الرباني لابد أن يكون مبنياً على ما يستحقه الإنسان، كما أشار إلى ذلك تعالى بقوله: (كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً) الإسراء 20. وفي الآية مباحث:
المبحث الأول: السياق الذي وردت فيه آية البحث يشير إلى الفرق الظاهر بين من يريد العاجلة ومن أراد الآخرة، حيث بين تعالى في الآيتين السابقتين لآية البحث، أن: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً***ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً) الإسراء 18-19. ثم قال تعالى: (كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً) الإسراء 20. وبعد ذلك ختم الآيات بقوله: (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً) الإسراء 21. وعند التأمل في الآيات يظهر أن من يريد العاجلة دون النظر إلى الآخرة، لا يمكن أن يحصل على كل ما يريد، بل أن الأمر مقيد بقوله تعالى: (عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) وهذا التقييد هو الرابط الملازم للإنسان في هذه الأرض كما مر عليك في مقدمة البحث المخصص لهذا المقال.
فإن قيل: وماذا عن النعم النازلة على المعرضين عن ذكر الله تعالى؟ أقول: القرآن الكريم يجيبنا على هذا السؤال بقوله تعالى: (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين) آل عمران 178. وهذه الآية الكريمة تبين أن الإملاء الإلهي ما هو إلا استدراج لهم، فالخير الذي يظهر لديهم لابد أن يُبطن بالإثم الذي بموجبه تخرج السعادة العاجلة عن مقتضياتها المشاهدة لغيرهم فتأمل.
المبحث الثاني: قال في الميزان نقلاً عن الراغب: أصل المد الجر ومنه المدة للوقت الممتد، ومِدة الجرح ومَد النهر ومددت عيني إلى كذا، قال تعالى: (ولا تمدن عينيك) ومددته في غيه وأمددت الجيش بمدد والإنسان بطعام، قال: وأكثر ما جاء الإمداد في المحبوب والمد في المكروه نحو: (وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون) (ونمد له من العذاب مداً) (ويمدهم في طغيانهم) (وإخوانهم يمدونهم في الغي). انتهى كلام الراغب بتلخيص من الطباطبائي الذي أضاف: والله سبحانه يمد الإنسان في أعماله سواء كان ممن يريد العاجلة أو الآخرة، فإن جميع ما يتوقف عليه العمل في تحققه من العلم والإرادة والأدوات البدنية والقوى العاملة والمواد الخارجية التي يقع عليها العمل ويتصرف فيها العامل والأسباب والشرائط المربوطة بها كل ذلك أمور تكوينية لا صنع للإنسان فيها.
ويضيف في الميزان: أهل الدنيا في دنياهم وأهل الآخرة في آخرتهم يستمدون من عطائه تعالى، ولا يعود إليه سبحانه في عطائه إلا الحمد لأن الذي يعطيه نعمة على الإنسان أن يستعمله استعمالاً حسناً في موضع يرتضيه به، وأما إذا فسق بعدم استعماله فيه وحرف الكلمة عن موضعها فلا يلومن إلا نفسه وعلى الله الثناء على جميع صنعه وله الحجة البالغة، وفي البحث بقية من أرادها فليراجع تفسير الميزان.
المبحث الثالث: يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير: تنوين (كلاً) تنوين عوض عن المضاف إليه، أي كل الفريقين، وهو منصوب على المفعولية لفعل (نمد) وقوله: (هؤلاء وهؤلاء) بدل من قوله: (كلاً) بدل مفصل من مجمل. ومجموع المعطوف والمعطوف عليه هو البدل.
ويضيف ابن عاشور: والإشارة بـ (هؤلاء) في الموضعين إلى كل من كان يريد العاجلة ومن أراد الآخرة، والأصل أن يكون المذكور أول عائداً إلى الأول، إلا إذا إتصل بأحد الإسمين ما يعين معاده، وقد اجتمع الأمران في قول المتلمس:
ولا يقيم على ضيم يراد به......إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته......وذا يشج فلا يرثي له أحد
والإمداد: استرسال العطاء وتعاقبه، وجعل الجديد منه مدداً للسالف بحيث لا ينقطع. انتهى بتصرف منا.
التعليقات