مع الإطاحة بحكم السيد محمد تانجا في النيجر، وخروجه من القصر الرئاسي، تثبت القارة السوداء، أنها صاحبة الرقم القياسي بلا منازع ndash; وللأبد- مع أكثر من 90 انقلابا في حوالي 35 دولة افريقية، بحيث صارت هذه العلامة الإفريقية المسجلة، سببا لدراسة متى يكون النظام أكثر عرضة للإطاحة العنيفة به؟


من المؤكد أن الانقلابات تأتي عند زعم إصلاح الأوضاع السائدة، لوصولها لنقطة حرجة لا تحتمل، ولكنها في العادة تدعم اللا استقرار، فكل الأنظمة السياسية التي جاءت بعد انقلاب، ولو بالانتخابات لاحقا، هي عرضة لمواجهة انقلابات أخرى، ذلك أن الانقلاب يقلل كثيرا من الاحترام السياسي للحكومات اللاحقة، وينزع عنها واقع الشرعية، ولو جاءت بآلية ديمقراطية نظريا.


التفسير السائد أن غياب الديمقراطية والحكم الديكتاتوري، هو السبب في ما يعتري القارة من تغيير دائم لسكان القصور الرئاسية، هذا التفسير يستعير بشكل صارم مقولة أن الديمقراطية هي سبب الاستقرار السياسي. ولكن الديمقراطية نفسها ليست هي السبب في بقاء أو زوال الأنظمة السياسية، لأنه وفي ظل نظم ديمقراطية نرى سقوط الحكومات مثلما هي في ايطاليا بل وحتى هولندا وبلجيكا وأوكرانيا. هذا ما يجعل مقبولية الأنظمة السياسية منحصرة في شرعيتها وقانونيتها، وهذا أمر ربما يتعسر الاطمئنان له كثيرا. وبمفهوم هابرماس فإن الديمقراطية نفسها قد تكون سببا في الوعي وسحب شرعية الأنظمة السياسية.


نعم ربما تكون الديمقراطية عاملا مساهما في استقرار الأنظمة، لكن عامل الشرعية - وهو مختلف عن الديمقراطية - قد يكون سببا أهم بكثير من الديمقراطية. ففي حين نتحدث عن الديكتاتورية، نعرفها ضمنيا بأنها النظام اللاديمقراطي، بينما هي في مواضع كثيرة هي اقرب لان تكون النظام اللاشرعي، أي النظام غير المقبول.
والنظام السياسي يكون غير مقبول في حالة خلوه من الروافد الثلاث التي تؤسس وجوده في صلب الحياة الاجتماعية فهناك أولا ndash; وبدون ترتيب إلزامي - البعد التكويني للنظام، حينما يكون النظام جزء من الثقافة نفسها، بحيث يكون تمثيلا للتوازنات الاجتماعية تاريخيا، لذا نرى نظما سياسيا تتمتع باستقرار ملفت رغم كونها لم تشهد حالة انتخابات واحدة في تاريخها، ولا يرتفع ضدها أي صوت لسحب الشرعية.


وكذلك ثانيا يأتي البعد الأخلاقي، إذا أن النظام ولو استقر به المقام تاريخيا، فإن خلوه من السمة القيادية والمؤثرة، والمهارات القيادية خاصة في الأزمات، قد يولد الشكوك في جدواه، ويصير أي بديل مفترض مبررا لنقض شرعيته. ثالثا نجد الجانب القانوني بما له من بعد حاسم، فغياب المؤسسات وتلاشي الرقابة ينزع عن اي نظام شرعيته تدريجيا.
فإذا افترضنا ان للديمقراطية نظرية محددة يمكن تدريسها داخل أروقة الأكاديميات، مهما اختلفت اجرائياتها ونمط مؤسساتها، فإن للشرعية منحى آخر مختلف عمليا وفي شعور ووعي الشعوب يكون النظام شرعيا ويستهجن الخروج عليه، لمجرد استمراريته، ولكن كل ذلك يكون مرتبطا عادة بنجاح النظام السياسي في تحقيق المطالب الإنسانية لمواطنيه، أو على الأقل تبرئة نفسها من المسؤولية عن عسر معيشة المواطنين، أو أي أزمة مريرة في الحياة العامة.


في دراسة اعدها لباول كوللير، وانكا هوفللير لأحد المراكز البحثية بجامعة أكسفورد (2005) يظهر أن الديمقراطية، وحتى عدم العدالة الاقتصادية والاجتماعية ليست سببا للانقلابات بإفريقيا، وبدراسة الدول التي عايشت هذه الظاهرة تبين ان ثمة ارتباط جلي بين زيادة الإنفاق على مؤسسة الجيش وبين الانقلابات، بحيث أن زيادة الإنفاق العسكري يزيد من نسبة الفساد في المؤسسة ويزيد من احتمالية تطلعها السلطوي، مع تأكيد النمط الجشع لقادة المحاولات الانقلابية.
وحتى هنا ينبغي ملاحظة ان وجود محاولات انقلابية ومبادرات للتغيير العنيف للأنظمة السياسية، لا تكفي للإطاحة بهذه الأخيرة، فثمة رصيد عميق في البنية الاجتماعية والثقافية يدعم نجاح الانقلابات دائما.


وهكذا فالربط بين الديمقراطية والانقلابات هو ربط مترف، تغذيه رغبتنا نحن في العدالة السياسية، وحقوق الإنسان، فتصور أن الديمقراطية هي مطلب من لا يأكل ولا يشرب، ولم يتعلم جيدا، ولا يملك وعيا سياسيا وحقوقيا مناسبا. تصور لا واقعي، وبالتالي فالانقلابات الإفريقية هي ترجمة لعدة عوامل منها عدم استقرار كيانات الدول نفسها، لذا نشاهد كثيرا من حالات التمرد العسكري الجهوي أو الطائفي والقبلي، وكذلك فثمة دور خارجي بالتأكيد خاصة مع مخلفات الحقبة الاستعمارية ودور الشركات العابرة للحدود، ودورها في إذكاء الصراعات متى ما أمكنها ذلك، وفي إطار هذا فالانقلابات ستكون عامل أخر يؤكد كل العوائق السابقة.


البحث عن مجرد انتخابات وحملات انتخابية، ليست هي العلاج الأكيد، رغم كونها ضرورية، فهل يمكن حقا البحث في تأكيد شرعية الأنظمة الحاكمة بدلا من الاستمتاع فقط بوصفها ديمقراطية أو غير ديمقراطية؟ سؤال ليس بريئا بالتأكيد.



كاتب ليبي من هولندا
[email protected]