لاحقا لمقالتيّ السابقتين quot; يا إلهي لماذا وكيف فقدنا إنسانيتناquot; و quot; محاولة الأجابة على سؤال: لماذا فقدنا إنسايتناquot;، حيث خصصت هذه المقالة لاستعراض وتصنيف آراء ومواقف القراء من السؤال المطروح، سأحاول في هذه المقالة تحديد أسباب استشراء القسوة وفقدان الإنسانية في مجتمعاتنا العربية بنسبة عالية، لدرجة أن شيوخ وعلماء دين كبار مثل الدكتور الشيخ عائض القرني، وصف العرب بأنهم quot; قساة جفاة quot; كما ذكرت في مقالتي الأولى، ووضعت الرابط الخاص بمقالته لمن يريد قراءتها مباشرة. ومن البداية أود التأكيد على أن ما سأطرحه لاحقا من أسباب لهذه الظاهرة المؤسفة، هو مجرد وجهة نظر تحتمل الصواب والخطأ، فلا أحد يستطيع ادعاء امتلاك الحقيقة كاملة، أو الإلمام بظاهرة ما من مختلف جوانبها وخلفياتها، والاجتهاد في الرأي أمر مشروع ومعترف به طالما هو يحاول مع الآخرين الوصول إلى ما هو أقرب للحقيقة. أسباب القسوة والعنف والجفاء في مجتمعاتنا أسبابها كما أرى متعددة ومنها:

أولا: التربية المدرسية والمنزلية
كيف يعامل الطفل العربي منذ ولادته في منزله وفي كافة المراحل الدراسية؟. العنف والقسوة هما السائدان من غالبية الآباء والأمهات والمدرسين، ونادرا ما يستمع هؤلاء للطفل والطالب، كي يتفهموا ظروفه النفسية والاجتماعية، فيكون الرد غالبا على طلباته بالتوبيخ والضرب والعقاب مثل حرمانه من الخروج من المنزل للعب مع أصدقائه، أو حرمانه من مصروف الجيب وهكذا. وكمثال أسأل. كيف يتعامل الأب والأم العربيين مع ابنهما الطفل في الصف الأول الابتدائي إذا قال لهما في يوم دراسي: مش جاي على بالي اليوم أروح المدرسة؟. أعتقد أن الغالبية لن تسأل عن السبب قبل أن يكون الكف قد سمع الجيران صوته على وجه الطفل؟. وللمقارنة ففي غالبية الدول الأوربية، تعتمد التربية المنزلية في هكذا موقف على سؤال الطفل أو الطالب: هل أنت مريض أو تشعر بتعب ما؟ فإذا أجاب: نعم. يتم التعامل مع الحالة حسب رغبة الطفل ذهابا للطبيب. ولكن إذا أجاب: لا لست مريضا ولا متعبا، ولكنني لا أرغب في الذهاب للمدرسة اليوم. في هذه اللحظة لا يوجد كف يطرقع على الوجه، ولكن الطلب من الطفل أن يحضر ما يسمى ( دفتر الآباء )، وهو دفتر خاص بالمراسلات بين الأبوين والمدرسة. يحضر الطفل الدفتر، فيكتب أحد الأبوين اليوم والتاريخ ثم يوجز الحوار الذي تم مع الطفل. في اليوم التالي يكون مع مدرس الفصل قائمة بمن لم يحضر أمس للمدرسة، وبعد انتهاء الدرس يطلب منهم اللحاق به لغرفته. في الغرفة يدور النقاش التالي:
المدرس: أعطني دفتر الآباء.
يقرأ المدرس ما كتب الوالدان من وصف لما جرى أمس مع طفلهما.
المدرس: هل نبهك والداك أمس لموعد المدرسة وأخبرتهما أنك لا تريد الذهاب للمدرسة؟
الطفل: نعم.
المدرس: لماذا طالما أنت لست مريضا ولا متعبا كما كتب والداك في الدفتر؟
الطفل: هكذا مجرد كسل.. لم أرغب في الحضور للمدرسة أمس.
المدرس: تذكر..أمس فاتك خمسة دروس تحتاج لواجب منزلي ثلاثة ساعات، واليوم نفس العمل، أي أنك ستجهد نفسك اليوم وغدا في المنزل، بينما كنت ستتجنب ذلك لو لم تغب عن المدرسة أمس. شكرا مع السلامة.
ولكن لو كانت إجابة الطفل أو الطالب على سؤال عدم مجيئه بأنه كان حزينا ومكتئبا، فيتم تحويله للطبيب النفسي فورا.
قارنوا ذلك بطريقة تعامل الآباء في بلادنا العربية، وأيضا طريقة تعامل المدرسين في كافة المدارس. يدخل المدرسون الفصول المدرسية في أغلب البلدان والعصا في أيديهم، أما العنف من المدرسين نحو الطلاب ومن الطلاب نحو المدرسين فلا تتخيل حجم انتشاره وشيوعه.

انشغلت عاصمة عربية الاسبوعين الماضيين عبر العديد من الصحف والمواقع الاليكترونية بمدرس تربية إسلامية ( انتبهوا مدرس تربية إسلامية أي انه موكل بتعليم الطلاب أخلاق الإسلام وتربيته )، ظلّ هذا المدرس يضرب طالبا في العاشرة من عمره حتى فقأ عينه اليمنى، لأن الطفل دخل غرفة المدرسين ليشرب جرعة من الماء. وتم نقل الطفل للمستشفى ولم يتمكن الأطباء من انقاذه، وفقد النظر بعينه اليمنى للأبد ويخاف الأطباء من كسور في الجمجمة. ولضخامة الحادث وانشغال المجتمع به، قام وزير التربية في ذلك البلد بزيارة الطفل في المستشفى، وأعلن أن الحكومة ستتحمل كافة نفقات علاجه. بينما يقبع مدرس التربية الإسلامية في السجن، والطفل يعلن: لن أعود للمدرسة بعين واحدة، ما كنت أتصور أنّ شربة ماء ستكون نتيجتها فقداني لعيني. وفي نفس العاصمة قامت مدرسة بمعاقبة طفلة عمرها أربع سنوات لوقفها عن الكلام، بإغلاق فمها بشريط لاصق كاد أن يؤدي لوفاتها لأن الطفلة تعاني من وجود لحميات في أنفها، مما يسبب عدم قدرتها على التنفس من فمها فقط، وتحتاج لعملية جراحية عند بلوغها سن الست سنوات.

ومن عاصمة عربية أخرى إليكم هذان الخبران المفرحان لدرجة رفع الضغط:
quot; أقدم أب على إطلاق النار على زوجته وابنيه الأمر الذي أدى إلى وفاتهم على الفور quot;. و quot; وقعت جريمة قتل ذهب ضحيتها شخص على يد زوجته التي أطلقت عليه رصاصتين من مسدس، أصابته الأولى في الرأس والثانية في البطن، حيث تم نقل جثة إلى المستشفىquot;. لذلك فإن من أشهر الأمثلة العربية هو (العصا لمن عصا ). وتصوروا حجم الكارثة حتى في أصولها اللغوية، فالمعصية من العصا التي تعني الخشبة الطويلة التي تستعمل لضرب الانسان والحيوان معا، وتعني أيضا من يعصى الأوامر أي لا ينفذها، والمعصية هي مفرد المعاصي مرادف الذنوب. كيف ستتصرف أجيال في مستقبلها عندما تكون نشأت وتربت في هذه الظروف والثقافة؟

ثانيا: البرامج التعليمية
هناك خلل واضح وبيّن في مجموع البرامج التعليمية العربية التي تركز على الجوانب النظرية خاصة المتعلقة بما يسمى (التربية الدينية)، وهذا ليس عيبا أو خللا لو كانت الأمور ضمن نصابها الطبيعي، ويبدو الخلل واضحا من حجم وعدد ما يسمى المعاهد الدينية والجامعات الإسلامية التي لا تخرج في الغالب سوى متعصبين ظلاميين لا علاقة لهم بالعصر ومستجداته، وهذا ما دعا الدكتور محمد بن أحمد الرشيد وزير المعارف السعودي عام 2002، أن يقول صراحة في اجتماع تربوي عقد في الرياض في الثاني من فبرايير عام 2002: quot; إن المسلمات التربوية التي كنّا نؤمن بها قبل ثلاثين عاما، قد اختلفت ولم تعد مصدر التلقي الوحيد، بل سحبت البساط من تحت أرجل الكثيرين في وسائل الإعلام والاتصال..إن أسلوب التلقين الببغائي لم نجن منه سوى الحنظل، فلا بد من هجره، وأن الحكمة ليست مقصورة عليكمquot;. وهذا ما يفسر الفارق التكنولوجي العلمي ليس بين العرب وأمريكا وأوربا فقط، ولكن بين العرب ودولة فقيرة الموارد مثل الهند التي تصدر منتجات الكومبيوتر للولايات المتحدة ذاتها، ونسبة عالية من العاملين في مجال التكنولوجيا (سوفت وير وهارد وير) في أمريكا نفسها من الهنود.
ماذا ستخرج البرامج الدينية السائدة غير العنف والقسوة والجفاء والقطيعة، عندما تدرس الطلاب في كل المراحل كراهية الآخر خاصة النصارى الذين تكرر المناهج والكتب دعاء شيوخ الدين عليهم بالإبادة والترمل والتيتيم؟. و في داخل الأسرة الواحدة احتقار المرأة بصفتها عالة على الرجل، فاقدة عقل ودين، وهي والحمار والكلب يفسد مرورهم من أمام المصلي صلاته.

ثالثا: التوتير الطائفي
وهو للأسف الشديد أمر ما عاد يمكن اخفاؤه أو التستر عليه، فهو يكاد يكون سمة علنية في بعض المجتمعات العربية بين السنّة والشيعة، رغم أن الجميع يتشدق بأن معلمهم و قدوتهم هو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وفي زمن الرسول لم يكن هناك أي مذهب أو طائفة بل دين واحد للجميع هو الدين الإسلامي. وشئنا أم أبينا ففي الجلسات الخاصة للطرفين يتم التحريض ضد الطرف الآخر، وهذا ما يفسر القتل الجماعي العشوائي في العراق وباكستان وأفغانستان، وهناك فتاوي علنية من شيوخ طائفة ضد طائفة أخرى. والتحريض والتوتر السائد بين المسلمين والمسيحيين في بعض الأقطار العربية، ما عاد من الممكن التستر عليه وإنكاره. كل ذلك لن ينتج سوى مظاهر العنف والقتل والقسوة والجفاء السائدة في تعاملات العرب مع بعض كشعوب، إذ من يصدق حرب داحس والغبراء الكروية بين الجزائر ومصر وما نتج عنها من مصائب لا يصدقها عاقل أو مجنون، وينسحب ذلك على نفس العنف بين أبناء الشعب الواحد والأسرة الواحدة.

رابعا: دور شيوخ الدين الإسلامي
أعتقد أن الأفكار التي يبثها بعض شيوخ الدين تؤدي لانتشار ظاهرة العنف والقسوة وفقدان الإنسانية بين شعوبنا. وسأضرب مثالا بفتوتين صادرتين عن شيخين معروفين من شيوخ الدين والدعوة الإسلامية، كي نسأل بعضنا: ما هي الأحاسيس والممارسات التي تنشرها هاتان الفتوتان.

الأولى: فتوى الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي حول تحريم مظاهر الاحتفال بالكريسماس (عيد الميلاد) لدى المسلمين، وهي دعوة تتجاهل وجود نسبة من مواطيننا العرب من الإخوة المسيحيين الذين يحق لهم الاحتفال بعيدهم وعرض أشجار الميلاد أيا كانت خلفيتها ( لكم دينكم ولي دين ). وطالما الدين الإسلامي يسمح للمسلم بالزواج من المسيحية دون اجبارها على تغيير دينها، فهل من المقبول شرعا أن يمرّ عيدها المسيحي دون أن يبارك لها زوجها بهذا العيد ويقدم لها الهدايا في هذه المناسبة، كما تبارك هي له بعيد الفطر وعيد الأضحى والمولد النبوي الشريف؟. إن مثل هذه الدعوات سيفهمها بعض الجهلة والسطحيين والمتعصبين بأنها دعوة للعنف والمقاطعة، ويكفي التذكير بما حدث في مدينة نجع حمادي بصعيد مصر حيث قتل شباب مسلمون متعصبون حوالي عشرة من الشباب الأقباط وهم في محيط الكنيسة يحتفلون بعيد الميلاد حسب التقويم القبطي.

الثانية: فتوى الشيخ عبدالرحمن بن ناصر البراك حول quot; تكفير مستبيح الاختلاط quot; التي قال فيها: (أنه من استحل الاختلاط ndash; وإن أدى إلى هذه المحرمات ndash; فهو مستحل لهذه المحرمات، ومن استحلها فهو كافر، ومعنى ذلك أنه يصير مرتدا، فيعّرف وتقام عليه الحجة فإن رجع وجب قتله). إن الأخذ والتطبيق العملي لهذه الفتوى يعني فعلا أن الغالبية العظمى من العرب والمسلمين هم كفرة مرتدون يجب قتلهم. ورغم الرفض الشديد الصريح لهذه الفتوى خاصة من اساتذة وشيوخ المملكة السعودية، إلا أن بعض الجهلة والمتعصبين سيأخذون بها لارتكاب المزيد من جرائم العنف والقسوة وتطبيقات لا إنسانية في مجمعاتنا.

تلك هي الأسباب التي أراها كون (العرب قساة جفاة) حسب وصف الدكتور الشيخ عائض القرني وتأييدي له في ذلك، لذا أرجو مناقشة هذه الأسباب بهدوء وموضوعية لبيان الصحة والخطأ فيه، وصولا لما يمكن اعتباره القاسم المشترك بيننا لهذه الأسباب، وإلا فنحن نسير نحو هاوية لا قاع لها، أي مجتمعات فاشلة متخلفة بمقاييس العصر والحضارة.
[email protected]