عدت إلى المملكة النرويجية المباركة (بإذن الله) بعد جولة دامت عدة أسابيع في أكثر من عاصمة عربية، حاملا معي كمية زائدة الوزن من الإحباط والتشاؤم مما شاهدته في أقطار صفتها (عربية) و ديانتها (إسلامية). هذا الاحباط والحزن لما شاهدته وعشته لا يعبر عنه إلا التساؤل عنوان هذه المقالة: يا إلهي كيف و لماذا فقدنا إنسانيتنا؟ لماذا نتصرف في أوطاننا مع بني جلدتنا بوحشية وقسوة لا وجود لها حتى في الغابات وحدائق الحيوانات؟. لماذا نشعر بحجم قسوتنا وهمجيتنا عندما نعيش بين ومع من يسميهم شيوخنا (أحفاد القردة والخنازير)، ونرى كم هم طيبون مع بعض ومعنا نحن المختلفين عنهم في الدين والعرق والأصل؟ لماذا هم إنسانيون يتعاملون برفق وحنان لا نعرفه حتى في بيوتنا مع خاصتنا من أهلنا؟ لماذا لا يسمع الله لشيوخنا يدعون يوميا عليهم في المساجد: (اللهم عليك بالنصارى والكفار الملحدين. اللهم شتّت شملهم. اللهم رمّل نساءهم ويتّم أطفالهم. اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم. اللهم أرنا فيهم يوما أسودا) إلخ هذه المجزرة التي لا تقل رعبا عن أفلام الرعب الهوليودية. وبالعكس فنتائج هذه الدعوات المرعبة ينزلها الله تعالى على رؤوسنا نحن، أهي حكمة إلهية؟..وأنتم تعرفون بالتأكيد، فقط للتذكير إن نفعت الذكرى، فمن يصدق كيف نتعامل مع بعض في أقطارنا الموصوفة (عربية)، وقارنوا نفس المعاملة بما يتعاملون به في بلاد (أحفاد القردة والخنازير) كما نسميهم وندعو عليهم، لنتأكد أنهم حقيقة أحفاد (الأنبياء والملائكة) ونحن من الصعب توصيفنا بناء على سلوكنا وتصرفاتنا مع بعض...فقط إليكم بعض الأمثلة واصدروا أحكامكم أية صفات نستحق نحن و هم؟
ممنوع..آسف.. مسموح التدخين!!!
تعلق كافة الدوائر والمؤسسات الحكومية والخاصة على جدران مكاتبها وخلف ظهر مدرائها، يافطة مكتوبة بلغة عربية واضحة صريحة مفهومة عبارة (ممنوع التدخين)، وفي بعض العواصم يكتبون تحت هذه العبارة (بناءا على قرار مجلس الوزراء رقم...لعام...). ورغم ذلك فالمراجعون والمدراء العامون والموظفون يدخنون بحرية وشجاعة منقطعة النظير. ومن يصدق أنه بأم عيني رأيت وشاهدت أنه حتى في المستشفيات الحكومية والخاصة يدخن الأطباء والممرضون والمراجعون والزوار والمرضى. المستشفيات الحكومية التي دخلتها لا يمكن وصفها إلا أنها (مزبلة) والمستشفيات الخاصة مجرد (مدخنة). سألت أحد الممرضين قبل أن يدخل غرفة صديقي المريض أن يطفىء سيجارته، فبحلق فيّ بعيون نارية، وزمّ فمه ووجهه وقال بصوت سمعه الزوار: (غور عن وجهي أحسنلك)!!. لحقته مبرزا جوازي النرويجي قائلا: (إذا كنت رجلا فأمسك سيجارتك لحين استدعاء السفير النرويجي الذي سيأتي فعلا في دقائق، لأن هذا الصديق نرويجي الجنسية ويتعالج في مستشفاكم على حساب المملكة النرويجية ليس لأن مستشفياتكم حسنة السمعة والمظهر، لكن سوء حظه أن هذه الحالة المرضية المفاجئة داهمته وهو في عاصمتكم). جاء على صوتنا العالي نائب مدير المستشفى حاملا سيجارته يسأل عما حدث، فقلت له: بمنظرك هذا مع السيجارة على باب غرفة المريض لا أستطيع الإجابة. فدّخن سيجارته متعمدا في غرفة المريض، ونظر لي باستهزاء خارجا من الغرفة، وأنا أكاد أبكي من الألم صارخا: يا إلهي كيف فقدنا إنسانيتنا؟.
وما كان مني إلا الاتصال بالسفير النرويجي ووضعه في صورة ما حدث، وما هي إلا عشرين ساعة بالضبط حتى كان المريض النرويجى ينقل مع طاقم طبي نرويجي جاء من أوسلو على أول رحلة جوية في درجة رجال الأعمال على نفقة الحكومة النرويجية كاملا، وفي بعض الحالات من السهل إرسال طائرة طبية نرويجية مع طاقمها الطبي الكامل من أطباء متخصصين وممرضين وممرضات.
وهنا أتذكر وأقارن بين مستشفياتنا المزابل المداخن هذه ومستشفيات (النصارى أحفاد القردة والخنازير) كما يدعو عليهم شيوخنا في صلواتهم، فإذا مستشفياتهم هي الجنة بعينها، وممرضاتهم وممرضوهم هم (ملائكة الرحمة) فعلا. عبر تجربة شخصية لمدة ثلاثة أسابيع (20 نوفمبر2008 إلى 9 يناير 2009) في مستشفيين في المملكة النرويجية المباركة بإذن الله، اكتشفت حجم تخلفنا وقذارتنا وقسوتنا. ممرضات شابات في عمر الزهور وفتنة الورود، لا يخجلن أو يترددن من خدمة المريض وتقديم المساعدة له في أمور تخجل الزوجة العربية أن تقدمها لزوجها حتى لو كانا وحدهما في غرفة مغلقة مظلمة. أحاول التحرك وحدي لأمر ما، فتسرع الممرضة ملكة الرحمة والجمال والحنان راكضة طالبة مني عدم التحرك وحدي لأن حالتي الصحية لا تسمح بذلك. أقول لها: أريد الذهاب لدورة المياه !. فتقول لي بهدووء ورفق: أنا آخذك، هذه مهمتي ووظيفتي ولا أخجل منها. تسندك على ذاعيها وكأنها ابنة لك وليست ممرضة. تدخلك دورة المياه وتقول لك: اضغط على هذا الزر إذا احتجت مساعدة فأنا واقفة على الباب طوال وجودك في دورة المياة.
طوال الليل يستحيل أن تمرّ عشرة دقائق دون أن تمرّ ممرضة أو ممرض يتفقدون أسرة المرضى بهدوء لامثيل له في بلادنا. في كل جناح غرفة مركزية تراقب كافة الغرف عبر شاشة تلفزيونية، فإذا حصل لمريض طارىء أو احتاج مساعدة يسحب خيط قرب سريره متدلي من السقف، فيظهر عندهم في الغرفة المركزية على الشاشة اسم المريض ورقم غرفته وسريره، ويكونون عندك في ثوان..نعم خلال ثوان وليس دقائق. في أوقات الطعام الأربعة إن كنت قادرا على الذهاب لصالة الطعام تذهب لتأكل مع الآخرين، وإلا فتأتيك الممرضة بالطعام إلى سريرك. وفي أوقات تناولك الدواء تأتيك عدة مرات بالدواء أي لا وجود لأمر إسمه النسيان أو التغافل. بعد عملية في القلب (قسطرة) وأسابيع ثلاثة في اشهر مستشفيين في أوسلو العاصمة النرويجية المباركة بإذن الله، وهذه الخدمات الإنسانية الراقية من ملائكة رحمة حقيقيين، سألني ابني القادم من واشنطن لزيارتي: والدي..كم ستكلفك العملية وهذه الرعاية لمدة ثلاثة أسابيع في أشهر وأرقى مستشفيين نرويجيين؟ سألته لماذا السؤال؟ أجاب: لأنه في الولايات المتحدة إن لم يكن لديك تأمين صحي يكلفك ذلك حوالي ثمانين ألف دولارا. أجبته: سترى بعينيك عندما أخرج من المستشفى بعد غد، لن أدفع دولارا واحدا، فكل الشعب النرويجي بملايينه الستة مؤمن صحيا تأمينا كاملا من الحصول على حبة الأسبرين إلى أعقد وأغلى عملية جراحية. وفي صباح اليوم الذي قرّر الأطباء عودتي للمنزل لأن حالتي أصبحت مستقرة وآمنة، جاء الممرض ملاك الرحمة والإنسانية ليسألني: هل لديك سيارة أو يوجد من سيوصلك للمنزل؟ اجبته حقيقة: لا. فقال: استعد بعد ربع ساعة سيأتي تاكسي على حساب المستشفى يوصلك للمنزل، وحسب مواعيد المراجعة للمستشفى المكتوبة في هذه الورقة، سياتيك التاكسي في كل موعد على باب المنزل، ليوصلك للمستشفى ويعيدك للمنزل بعد انتهاء مراجعة الطبيب. كل هذا وهم يعرفون أنني (بدوي سبعاوي)، ولكن منذ حصولي على الجنسية النرويجية عام 1996، فأنا مواطن نرويجي لي كامل حقوق النرويجي ابا عن جد، واشارك في انتخابات البلدية والرلمان ومن حقي الترشح في هذه الانتخابات. ونسأل: لماذا ينصرهم الله ويوفقهم في كل الاكتشافات العلمية والاليكترونية؟ وعندما وصل التاكسي في موعده، حمل الممرض حقيبتي وأمسكني من يدي موصلا غياي للتاكسي، فتح لي الباب ,جلسني مغلقا الباب قائلا: مع السلامة لا تتردد في الاتصال بهاتف الطوارىء عند أية حالة!!. ولذلك أدعو في كل صلواتي: اللهم أنصر المملكة النرويجية المباركة. اللهم أحمها من كل الأعداء الكارهين للتقدم والإنسانية؟ اللهم ساعدهم في اكتشاف المزيد من الغاز والنفط لأنه كل ايراداته لخدمتنا نحن المواطنون النرويجيون، ولا يستطيع ملك النرويج أخذ دولارا واحدا منه لا يسمح له به القانون زيادة على راتبه الشهري. اللهم العن لاعنيهم وزلزل الأرض تحت أقدام كارهيهم، لأن مساعداتهم لدول العالم الثالث تفوق ميزانية دولة نفطية عربية أو إسلامية.
هل تصدقون التخين ممنوع حتى في البارات؟
منذ أكثر من خمسة عشر عاما التدخين ممنوع في كافة الدول الأوربية في كافة الأماكن العامة والمستشفيات والجامعات والمدارس والمطاعم، ومنذ خمسة أعوام أصبح التدخين ممنوعا حتى في البارات والمقاهي. فور صدور القرار وإعلانه في الصحف والتلفزيونات، يتقيد المدخنون والمحششون بذلك بدون رقابة أو متابعة. يذهبون للمطاعم والبارات يأكلون ويشربون ويضحكون، وإن أراد واحد منهم تدخين سيجارة، يخرج خارج المطعم أو البار ليدخنها في لحظات ثم يعود. وهناك مطاعم وبارات تضع كراسي وطاولات في الهواء الطلق لمن يريد ان يدخن سواء كانت الحرارة فوق الصفر أو عشرين تحت الصفر. شعارهم الذي يطبقونه هنا بدون إعلانه أو كتابته هو (من حقك أن تدخن، ولكن ليس من حقك أن تؤذي غيرك بتدخينك).
كارثة سيارات الأجرة
في بعض العواصم العربية التي زرتها هناك مسلسل كارثي اسمه (كيف تركب تاكسي أجرة)، فغالبية التاكسيات بدون عدّادات لقياس المسافة والأجرة، وبالتالي عليك أن تبدأ خوض مباحثات عسيرة مع السائق حول الأجرة التي يريدها للمكان الذي أنت ذاهب إليه. بصراحة مباحثات كامب ديفيد كانت أسهل واسرع من تلك المباحثات التي غالبا لا تنتهي بنجاح مع السائق الأول، فتضطر لخوضها مع سائق ثان وربما ثالث. أما إذا كان التاكسي فيه عداد وهذا ما ندر، فإن عرف السائق أنك تجهل البلد وكيفية الوصول للمكان الذي تريده، فسيبدأ باللف والدوران عبر الأماكن المزدحمة لتحقيق أعلى مبلغ ممكن عبر العداد.
لماذا هنا صادقون وواضحون؟
بينما هنا في كافة بلاد النصارى لا توجد سيارة تاكسي بدون عداد، ويسألك عن العنوان الذي تريد الذهاب إليه فيضعه على جهاز (جي بي إس)، فيقود السائق للعنوان من أقصر الطرق، وعندما تصل ينظر إلى العداد ليطبع لك ايصالا رسميا بالمبلغ الذي ستدفعه. عندما يتوقف التاكسي الذي طلبته، إذا فكرت في الجلوس جنب السائق، يقول لك بأدب: آسف أنت مكانك في الخلف. بينما في بعض عواصمنا الموصوفة (عربية)، يرفض السائق أن يتحرك إذا جلست في الخلف، ويجب أن تجلس جانبه، لماذا؟ يجيبك: كي لا يظن الناس أنني سائق عندك؟. تصوروا مدى تخلفنا وحرصنا على المظاهر الكاذبة!! من يخجل من مهنته كسائق أو نجار أو سبّاك أو حدّاد سوى خريجو ثقافة الكذب والأدعاء والمظاهر الفارغة؟
وهناك كوارث تعمّ كل حياتنا
ليس من باب جلد الذات الكتابة عنها، ولكن من باب السؤال الصارخ: لماذا وكيف فقدنا إنسانيتنا؟ ورغم ذلك يدعو شيوخنا على النصارى أحفاد القردة والخنازير، ونحن والله غالبية تصرفاتنا وسلوكنا لا يقبله القردة والخنازير، فكم القردة والخنازير رحيمون مع بني جلدتهم. هل شاهدتم قردا يقتل قردا؟ أم خنزيرا يكيد لخنزير؟ إن سمع الله دعاء شيوخنا بترميل نساءهم وتيتيم أطفالهم وزلزلة الأرض تحت أقدامهم:
من سيصنع ويورد لنا الدواء الذي نعالج به مرضانا؟
من سيصنع ويرود لنا السيارات والطائرات والبواخر التي نتنقل بها أم سنعود للجمال والبغال والحمير؟
من سيصنع ويورد لنا الكومبيوترات والإذاعات والفضائيات التي يبث من خلالها شيوخنا دعواتهم تلك؟
من سيصنع ويورد لنا آلات الطباعة والورق الذي نطبع بها وعليه القرآن الكريم وأحاديث الرسول ودعوات الشيوخ المذكورة؟
أو ليس عيبا وعارا أن كافة دولنا العربية والإسلامية لم تتحرك لنجدة وإغاثة ضحايا الزلزال في هاييتي.دولتان أو ثلاثة أرسلت طائرتان بمواد غذانية، بينما ماما الشقيقة الكبرى أمريكا استنفرت كل قوتها كدولة عظمى، وأرسلت قرابة عشرة ألاف جندي ومتطوع وشرطي وطبيب وممرض، للعلاج وحفظ الأمن والإغاثة، وعشرات الطائرات والبواخر محملة بالخيم والمواد التموينية والطبية. وكذلك فرنسا والنرويج وبريطانياودول أوربية أخرى، بينما دولنا بما فيها الغنية بالنفط لم تسمع أساسا بالزلزال، وبعض منظرونا القومجيون تناسوا عذابات شعب هاييتي، واعتبروا المساعدات الأمريكية غزوا عسكريا، وياليت كل الغزوات العسكرية مثل هذه الغزوة الهاييتية، لأنه لا يوجد في هاييتي من ثروات وامتيازات تستدعي الغزو و الاحتلال.
أتريدون دليلا دامغا على ما كتبت؟
عودوا لقراءة مقالة الشيخ الدكتور عائض القرني بعنوان (نحن العرب قساة جفاة) بتاريخ السادس والعشرين من مارس 2008 بجريدة الشرق الأوسط اللندنية.
http://www.aawsat.com/details.asp?section=17amp;article=458436amp;issueno=10670
[email protected]