مدينة رفح في جنوب قطاع غزة هي المدينة الفلسطينية الملاصقة للحدود مع جمهورية مصر العربية، وتجاورها على الحدود ما تسمى (رفح سيناء) اي المصرية. ومدينة رفح الفلسطينية كانت حتى عام 1948 أيام أن نزحت (هاجرت) لها مع أسرتي بعد ما أطلقوا عليه (النكبة) كانت مجرد بيوت عادية من الحجر أو الطين لا تختلف كثيرا عن البيوت (البلوكات) التي بنتها وكالة غوث اللاجئين (الأونروا)، ووزعتها على الأسر اللاجئة للمدينة وغيرها من مدن قطاع غزة الذي بقي حتى عام 1967 تحت حكم الإدارة العسكرية المصرية كما كانت تسمى آنذاك، وربما كان أشهر بناء فيها هو (مدرسة رفح الأميرية) التي تعلمنا فيها حتى نهاية الصف الثانوي الأول، ومن يريد أن يكمل تعليمه الثانوي كان عليه أن ينتقل إلى مدرسة خان يونس الثانوية، وكنا نذهب يوميا مشيا على الأقدام إلى مدينة خان يونس المجاورة ذهابا وإيابا حوالي عشرين كيلو مترا، وكنا نتحمل هذه المشاق بحثا عن العلم حيث غرس آباؤنا وأجدادنا في عقولنا ونفوسنا حكمة (سلاح الفلسطيني شهادته)، لذلك كان من النادر ان تجد أسرة مهما كانت فقيرة أن لا يكون لها إبن أو ابنة في الجامعات المصرية، خاصة بعد منحة الأربعين جنيها التي أصدرها الرئيس جمال عبد الناصر، وكانت تمنح للطلبة الفلسطينيين المقبولين في أية جامعة مصرية، وكانت الأربعين جنيها مصريا (الآن ثمانية دولارات) تكفيني عاما دراسيا كاملا في جامعة القاهرة، وهي تلك المنحة التي تمكنت من خلالها إنهاء المرحلة الجامعة الأولى من قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة القاهرة في مايو 1965.وبسبب هذه المنحة تخرج من جامعة القاهرة من أسرتي الفقيرة جدا جدا أيضا أخي و أختي، أي أن أسرة فلسطينية لاجئة فقيرة لدرجة العدم يتخرج ثلاثة من أولادها من جامعة القاهرة في ذلك الزمن الصعب الذي كان التحدي والإرادة سلاحنا لمواجهة ما بعد النكبة.

رفح في التاريخ والحياة

هذه المدينة البسيطة تحكي كتب التارخ عن تاريخها القديم حيث كانت في زمن الفراعنة تسمى (روبيهوا)، وليس بعيدة هذه التسمية عن اسم وصفة (ربيع الهوا) حيث قرب المدينة من شاطىء البحر الأبيض المتوسط جعل منها في الربيع ذات هواء عذب، خاصة في منطقة شاطىء البحر التي يسميها الفلاحون الفلسطينيون (المواصي)، وكانت تشتهر بزراعة فاكهتين فقط (الجوافة و البلح). وهذه التسمية (ربيع الهوا) ليست غريبة على تسميات الأماكن في قطاع غزة لوقوعه على شاطىء البحر الأبيض المتوسط، ففي مدينة غزة يوجد حي بسيط العلو اسمه (تل الهوى)، قام مؤمنو حركة حماس بعد انقلابهم العسكري في يونيو 2007 بتغيير اسمه إلى (تل الإسلام)!!!.
وطوال مراحل تاريخ مدن القطاع، كانت مهمة المسجد (الجامع) هي العبادة فقط، ومنذ النكبة حتى عام 1967 حيث القطاع تحت حكم الإدارة العسكرية المصرية، لم يحدث أن تمّ توظيف الجامع لأي مهمات أخرى غير العبادة بما فيهم الإئمة المؤيدون لعبد الناصر، فلم يحدث أن تم توظيف الجامع للدعاية له، حتى في الأزمات التي شهد فيها القطاع مظاهرات عارمة مناهضة له. ومنذ وقوع القطاع تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر عقب هزيمة حزيران 1967 إلى عودة السلطة الوطنية الفلسطينية في عام 1996 عقب توقيع اتفاقية أوسلو، بقي الجامع دارا للعبادة فقط لا يتم توظيفه لأي دور أو قائد سياسي. وشهدت تلك الفترات تعايشا اجتماعيا مميزا، فلا أذكر وأنا من عاش في مخيم رفح ودرس في مدرسة خان يونس الثانوية في زمن المربي المشهور المرحوم (سامي أبو شعبان)، أن كنا نسأل الشخص في المدرسة أو الشارع أو الحي إن كان مسلما أو مسيحيا، وكان من النادر أن ترى في شوارع القطاع وحاراته ومدارسه فتاة أو إمرأة محجبة أو منقبة.

متى ومن سرق الجامع؟

هذه الحياة الاجتماعية المسالمة المتسامحة بدأت في التراجع لصالح التطرف والكراهية منذ أن بدأ توظيف الدين الإسلامي لمصلحة أطراف سياسية وعت مبكرا أن الدين هو أفضل الطرق للتأثير في عقول وقلوب عامة الناس، وبالتالي كسبهم لحساب برامج وأجندات سياسية دون أن يقرأوا تفاصيلها أو يناقشوا محتوياتها، طالما هي مغلفة بورق ناعم لامع اسمه (الإسلام)، وهي في الواقع مجرد برامج سياسية لاتختلف كثيرا عن برامج الأحزاب اليسارية والماركسية، من هنا كانت مقولة ماركس (الدين أفيون الشعوب)، وكما أفهمها فهي ليست إهانة للدين بالمطلق، ولكن القصد منها أن الدين إذا أسيء توظيفه فيمكن أن تقتاد الشخص من خلاله مثل من وقع تحت تأثير الأفيون، فيفقد إرادته وقراره الذاتي فيصبح مجرد ببغاء يردد ما يسمع من أولئك الموظفين للدين، خاصة في زمن القرون الوسطى حيث مارس رجال الكنيسة تخلفا وظلامية لا مثيل لها، أما الدين الذي يحترم العقل والتفكير فهو خارج هذا التوصيف الماركسي.

شهد قطاع غزة بداية سرقة الجامع مع بداية انطلاق حركة حماس مطلقة على تنظيمها اسم (حركة المقاومة الإسلامية)، وكان هذا نشازا في مجتمع يتعايش فيه المسيحيون والمسلمون في مواجهة الاحتلال، خاصة أن أول من بدأ في دعم المقاومة هو المطران هيلاريون كبوجي مطران القدس للروم الكاثوليك، ووقف بصرامة مبكرا ضد محاولات تهويد القدس، فاعتقلته سلطات الاحتلال عام 1974 وأمضى في السجن ثلاثة سنوات إلى أن أبعدته عام 1977، ومن ينسى مواقف المطران الشجاع عطا الله حنا؟. وعندما بدأت حماس موضة (العمليات الانتحارية) انقسم علماء المسلمين بين انها انتحارية أو (استشهادية) خاصة بعد عمليات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 حيث أدانها صراحة غالبية علماء المسلمين.
وبعد انقلاب حماس صعدت حماس من ممارساتها باسم الدين الإسلامي مرتكبة من الجرائم التس فصلت الحديث فيها موثقة في مقالتي قبل أيام قليلة بعنوان (صعود ملامح حماس الطالبانية في غزة)، وبالتالي هيأت المناخ السهل لظهور من هم أكثر تطرفا وتخلفا منها، فكانت جماعة (السلفية الجهادية) بقيادة الشيخ عبد اللطيف موسى في مدينة رفح المنكوبة بحماس وبه، حيث أعلن من مسجد ابن تيمية عن ولادة (الإمارة الإسلامية في أكناف بيت المقدس) التي ستبدأ من مدينة رفح الحدودية مع مصر، وحسب توصيف الشيخ (سنقيم هذه الإمارة على جثثنا وأجسادنا، وسنقيم بها الحدود والجنايات وأحكام الشريعة الإسلامية)، وهاجم علنا حركة حماس مطالبا (إما أن يطبقوا شرع الله ويقيموا الحدود والأحكام الإسلامية أو يتحولوا إلى حزب علماني تحت مظلة الإسلام).

جنون حماس
وهنا استعر جنون حماس إزاء ظهور من يزايد عليها باسم الإسلام، فكان اقتحام قواتها العسكرية للمسجد بضراوة عسكرية وشجاعة لم تبديها اثناء الاجتياح الإسرائيلي الأخير في يناير 2009، وكانت نتيجة هذه المجزرة مقتل الشيخ موسى عبد اللطيف و 25 من أنصاره المتحصنين في المسجد، وجرح ما لا يقل عن 150 من بينهم 20 في حالة الخطر الشديد، وسقط بعض القتلى من عناصر حماس المهاجمين للمسجد، لكنهم في عرف حماس شهداء، أما انصار السلفية الجهادية فهم قتلى إرهابيين تكفيريين كما وصفهم النائب عن حماس إسماعيل الأشقر، حيث وصف الشيخ وأنصاره بأنهم (جماعة تكفيرية)، أما ممارسات حركته حماس فهي إيمانية بما فيها منع أعضاء مؤتمر فتح من مغادرة القطاع للمشاركة في المؤتمر في مدينة بيت لحم.
ورغم رفض أفكار الشيخ عبد اللطيف موسى وجماعته، كونها أفكار بالية عفى عليها الزمن، وتعيد المجتمع الفلسطيني في حال سيادتها لعصور أكثر من ظلامية، إلا أن أفكار حماس وممارساتها التي هي ليست بعيدة عنها، هي من هيأت الظروف لظهور الشيخ ونشاطاته العلنية، لذلك كانت ردة فعل قوات حماس أكثر من همجية، لأنه كان بوسعهم محاورة الشيخ حتى لو استمر اعتصامه في المسجد أسابيع، فبماذا يهددهم؟. التهديد الوحيد هو أن حماس وجدت من يزايد عليها باسم الدين، وبالتالي لا بد من اجتثاثه ليبقى الدين سلعة بيدي مسؤوليها، لن يكون قرار فرض الحجاب على المحاميات الفلسطينيات آخر قراراتها الظلامية. وقد قالت لي صحفية فلسطينية مسيحية قبل صدور قرار حماس هذا بشهور بالحرف الواحد: (إذا استمرت حماس في مارساتها الظلامية المتخلفة هذه، فأنا الصحفية الفلسطينية المسيحية لن يكون أمامي سوى خيار واحد، إما لبس الحجاب أو الهجرة).
لذلك فإن مدينة رفح الفلسطينية جنوب القطاع على الحدود المصرية، قد حصدت جريمة مما زرعت حماس في السنوات الماضية، وهذه الجريمة لن تكون الأخيرة، لأنه عندما تتم سرقة الجامع وتوظيف الدين لهكذا أفكار وممارسات، فالسرقة والتوظيف لن تكونا حكرا على حماس، حتى لو مارست ما هو أبشع مما مارسته في مسجد ابن تيمية في المدينة.
[email protected]