منذ أن تعلمنا القراءة والكتابة لا يمرّ اسم دولة اليمن إلا مقرونا بصفة السعيد، رغم أن كافة نواحي حياة هذا البلد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية منذ ما يزيد على نصف قرن، من الصعب ربطها بالسعادة التي يستحقها هذا الشعب الطيب البسيط المتواضع. لكن ظروف البلد منذ الانتداب البريطاني وتقسيم البلاد إلى شمال وجنوب،وانقلابات متعددة منذ عام 1962 ثم حكم شمولي فردي منذ عام 1978 سواء عندما كان شمالا وجنوبا أو بعد أن توحد في عام 1990، والحكم بيد فرد واحد هو الرئيس علي عبد الله صالح، مما يجعله أطول رئيس عربي في الكرسي بعد العقيد القذافي، وهو بذلك يستحق لقب (نائب عميد الحكام العرب)، على اعتبار أن العقيد القذافي هو عميدهم لأنه أطولهم بقاء في الكرسي منذ عام 1969 . الطريف في الأمر هو كثرة التفسيرات لتسمية هذا البلد باليمن، فهناك من يرى أنها سميت بذلك نسبة ل (أيمن بن يعرب بن قحطان)، والأقرب للمنطق هو نسبة لليمن بضم الياء أي الخير والبركة التي كانت تنعم بها هذه البلاد في عصور سابقة شهدت قيام دولة سبأ قبل الميلاد، وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم، وكان من ملوكها الملكة بلقيس، وقصتها مع سيدنا سليمان والهدهد معروفة في القرآن الكريم في سورة quot; سبأ quot;. والمثير للمعرفة أنه في عصور سابقة قريبة أي حتى الاحتلال البريطاني كانت القهوة اليمنية من أشهر أنواع البن في العالم، وإذا بها تتراجع وتكاد تختفي لصالح القهوة البرازيلية بسبب عدم الاهتمام بها لصالح القات اليمني حيث جلسات quot; التقويت أو quot; التخزين quot; من عادات المجتمع اليمني التي من الصعب مكافحتها حتى في أوقات الدوام الحكومي الرسمي، وهذا يكلف الاقتصاد اليمني خسائر تصل لعدة مليارات سنويا، خاصة عدم نجاح حملات مكافحة القات والتوعية من خطورته في ظل نسبة الأمية بين السكان البالغين التي تصل حسب الاحصائيات الرسمية إلى ما يزيد على 55 %، أي أن هذه النسبة من السكان لا تقرأ ولا تكتب..وهنا فقط يمكن تصور حجم المصيبة أو الكارثة!!.
ما مناسبة هذه الذكريات اليمنية؟
هي تعدد الأخبار والمعلومات عن تعزيز مجرمي وإرهابيي القاعدة لوجودهم وحضورهم في اليمن، خاصة بعد تضييق الخناق عليهم بشكل ناجح ومستمر في المملكة العربية السعودية، التي عانت كثيرا من إرهابهم، فكان لا بد من هذه الحملات المستمرة ضدهم التي أدت لهروبهم وتعزيز حضورهم في اليمن المجاور، ويؤيد هذه المعلومات كثرة عمليات هذه المجموعة الإرهابية في اليمن في الأعوام الأخيرة، التي كان أبرزها الهجوم الانتحاري على المدمرة الأمريكية quot; كول quot; في 12 أكتوبر من عام 2000 وأودى بحياة 17 بحارا أمريكيا، ثم توالت هذه العمليات الإرهابية خاصة في العامين الأخيرين ضد البعثات الدبلوماسية و خطف وقتل السياح الأجانب والمنشآت النفطية اليمنية، وكان أبرز هذه الهجمات ضد السفارة الأمريكية في أيلول 2008 التي أسفرت عن مقتل 16 يمنيا من الشرطة والمدنيين وستة من المهاجمين. ومن المؤكد ميدانيا أن غالبية إرهابيي القاعدة بدأوا الفرار من المملكة السعودية لليمن بعد تضييق الخناق عليهم،مستغلين صعوبة ضبط الحدود اليمنية السعودية بشكل كامل بسبب الطبيعة الجغرافية والقبلية هناك، خاصة بعد إعلان بعض قياديهم الولاء لقيادة القاعدة في اليمن مما يعني انتهاء وجودهم المؤثر والفاعل في المملكة السعودية. وفي اليمن يجدون الأجواء الملائمة للاستمرار في ممارسة إرهابهم سواء في داخل اليمن أو في دول أخرى، خاصة ما يتعرضون له من غسيل عقل ودماغ من قبل فئة ضالة تصور لهؤلاء المضللين أن الجهاد يعني الجهاد ضد شعوبهم وبلدانهم، و إلا كيف يجرأ شخص على أن يفجر نفسه في حشود بشرية من شعبه وأهله، أو تفجير منشآت نفطية يعتمد عليها اقتصاد بلاده ومعيشة أهله؟.
محمد العوفي مثالا!!
هو المواطن السعودي محمد عتيق عويض العوفي الملقب (أبو الحارث)، وكان من ضمن المعتقلين السعوديين في معتقل جوانتانامو (يحمل الرقم 333) الذين تمّ تسليمهم للسلطات السعودية، وخضع مع غيره من المضللين بالفكر التكفيري لبرامج توعية، عرفت باسم (المناصحة) بمعنى تقديم النصيحة والإرشاد لهم بعد ما تعرضوا له من غسيل عقل ودماغ أدى لتضليلهم بدليل الأعمال الإرهابية اللاإنسانية التي قاموا بها أو حرّضوا عليها. وبعد أن اعتقدت السلطات السعودية أنه تاب وندم عن كافة أعماله السابقة،قامت بالإفراج عنه لتفاجأ أنه غادر السعودية قبل أشهر قليلة إلى اليمن مع زميله سعيد الشهري، ليظهرا في شريط فيديو يعلنان فيه انضمامهما لما أطلقوا عليه (تنظيم القاعدة في جزيرة العرب)، بزعامة اليمني ناصر عبد الكريم الوحيشي السكرتير السابق لأسامة بن لادن، وكان العوفي من ضمن قائمة المطلوبين الخمسة والثمانين التي أعلنتها السلطات السعودية في الثاني من فبراير الماضي ويحمل الرقم 73، ومن بينهم يمنيان والباقي سعوديون موجودون في أماكن مختلفة في الخارج. ثم توالت أشرطة الفيديو التي تبين حجم التضليل الذي يتعرض له هؤلاء الشباب من قبل التكفيريين، ومنها الشريط الذي يظهر فيه العوفي وهو يحمل قنبلة يدوية أطلق عليها اسم (قنبلة الانتحاري علي المعبدي)، وهو الإرهابي الذي فجّر نفسه في مجمع المحيا السكني في مدينة الخبر السعودية في نوفمبر من عام 2003 وراح ضحيته 18 شخصا كلهم من الجنسيات العربية. وكان هذا العمل الإرهابي وما يشابهه صدمة قوية لمن كانوا ينظّرون لهذا الإرهاب ويدعمونه بفتاويهم، لذلك أعلن أكثر من واحد منهم التوبة العلنية والاعتذار عن التضليل الذي اقتنعوا به لفترة، وغسلوا من خلاله أدمغة الشباب الذين يقومون بمثل هذه الأعمال، وكان من هؤلاء المعتذرين بجرأة وصراحة يشكرون عليها الشيخ ناصر بن حمد الفهد والشيخ على الخضير، وأعلن الشيخ ناصر الفهد أنه شخصيا طلب من التلفزيون السعودي إجراء المقابلة معه التي بثت مساء السبت الثالث والعشرين من نوفمبر 2003، وذلك حسب قوله: quot; من أجل إبراء الذمة..وبيانا للناس أننا لا يمكن بحال أن نقرّ مثل هذه الأعمال..هذه لا يقرها أي عاقل فضلا عن مسلم فضلا عن طالب علم..نحن نبرأ إلى الله منها..هذه الأمور محرمة quot;. و وصف الشيخ الفهد الهجوم الإجرامي على المجمع السكني في المحيا بأنه quot; من الفساد وأن من يفجر نفسه في هذه العمليات ليس شهيدا لأنه خالف تعاليم الإسلام بقتل المسلمين وغير المسلمين وأضرّ بالأمن وشوّه صورة الجهادquot;.

مفاجأة محمد العوفي
بعد أن راجع الأعمال التي قام بها استنادا لدروس المناصحة الإسلامية التي تلقاها في موطنه السعودية قبل هروبه لليمن، أدرك محمد العوفي حجم الخطأ والضلال الذي وقع فيه، لذلك كان جريئا في مواجهته مع نفسه استنادا للشريعة الإسلامية السمحة في أساسها، فقام في السابع عشر من فبراير الماضي بتسليم نفسه طواعية للسلطات اليمنية التي قامت بالتنسيق مع السلطات السعودية التي أعادته لبلاده برا، ثم نقلته بطائرة خاصة إلى العاصمة الرياض متيحة فرصة إنسانية لعائلته كي تستقبله في المطار. وقد كان تسليم محمد العوفي نفسه بمحض إرادته، وكما قال ناصر الحقباني مراسل جريدة الحياة في الرياض يوم التاسع عشر من فبراير الماضي، بأن وجه من خلال ذلك صفعتين قويتين الأولى لتنظيم القاعدة والثانية لزميله نائب التنظيم سعيد الشهري الذي حرّضه على الانضمام إلى القاعدة في اليمن.
مواجهة الإرهاب بالفكر والتوعية
لقد اصبح واضحا من هذه العمليات الإرهابية في العديد من الأقطار خاصة الآن في العراق وباكستان وأفغانستان، أن هؤلاء الشباب يتعرضون لتشويه عقلي من خلال الطريقة التي يقدم لهم بها الدين الإسلامي، وبالتالي فالمواجهة معهم خاصة في تنظيم القاعدة بكافة فروعه وتسمياته ليست عسكرية فقط بل فكرية تعليمية تثقيفية، كما بدأ ذلك في برنامج (المناصحة) الذي نفذته وزارة الداخلية السعودية، وأهم نتيجة هي بدء القائمين سابقا على التنظير لهذه العمليات الإرهابية بمراجعة جريئة كما ذكرنا، وقد سبقهم لذلك مراجعات بعض قيادات الجهاد في مصر، وهو ما يعلق عليه الدكتور محسن العواجي، الناشط السعودي والمشرف على موقع ومجلة الوسطية: quot; إنهما بلا شك ضحية مدرسة فكرية موجودة طالما اقترحنا المكاشفة والمصارحة حولها لا للتنكر لها والجور عليها، وإنما طمعا في التخلص من الألغام الفكرية الموروثة دون مساس بثوابت الدين العظيم وأصوله التي نستقيها من مصدرنا الإسلامي لا من اجتهادنا المرحليquot;.
وبالتالي فإن موقف محمد العوفي الجريء في مواجهته مع نفسه، ورفضه الاستمرار في ممارسات إرهابية تناقض مع قناعاته وتستجيب فقط لتضليل بعض أصدقائه، من شأنها أن تقنع آخرين بالتوبة والعودة لجادة الصواب. وليت هؤلاء المستمرون في ضلالهم يسألون أنفسهم في لحظة صراحة: ما علاقة قتل الأبرياء من شعوبهم بالجهاد وغالبية ضحاياهم من مواطنيهم المسلمين؟.
[email protected]