الموت قدرة إلهية رهيبة لا يفلت منها أحد (إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون). ورد في الأخبار قبل شهرين تقريبا أنّ خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، قد طلب من السلطات الأردنية السماح له بزيارة الأردن بعد مرور عشرة أعوام على إبعاده مع بعض قياديي حماس، إثر الجدل والخلاف الذي تمحور بين الحكومة الأردنية والحركة حول أحقية وإمكانية أن يكون الشخص مواطنا أردنيا يحمل الجنسية الأردنية ويمارس كافة صلاحياته الدستورية، وفي الوقت ذاته عضوا أو قياديا في حركة أو تنظيم أوحزب غير أردني، وهو ما ينطبق آنذاك على خالد مشعل ورفاقه الذين أبعدوا معه عام 1999، حيث كانوا مواطنين أردنيين يحملون الجنسية الأردنية ويقيمون في العاصمة عمّان، وفي الوقت ذاته يشكلون قيادة حركة حماس الفعلية في الداخل الفلسطيني وخارجه، وهو ما يتعارض مع الدستور الأردني، لذلك كان إبعادهم من الأردن هو الحل التوافقي الذي تم الاتفاق عليه آنذاك بين السلطات الأردنية والقطرية والحركة رغم التوترات والتعقيدات التي أعقبت ذلك.
وكان رد السلطات الأردنية على طلب مشعل زيارة الأردن لم يصدر بعد، ولم يكن معروفا إن كان سيكون رفضا أو موافقة، وفجأة تدخل عزرائيل ملك الموت في وفاة المرحوم الشيخ عبد الرحيم عبد القادر مشعل والد (خالد مشعل) في العاصمة عمّان حيث يقيم مواطنا أردنيا، لم يكن له أي نشاط سياسي رغم أن ابنه (خالد) هو رئيس المكتب السياسي لحركة حماس. وهنا جدّد خالد مشعل طلبه للسلطات الأردنية لزيارة عمّان على وجه السرعة للمشاركة في تشييع المرحوم والده.

لفتة ملكية إنسانية سريعة
وقد كان من الممكن بناء على تعقيدات الظرف الماضي والحاضر أن تستغرق دراسة الطلب وقتا في أروقة الحكومة الأردنية، ولما كان العرف هو (إكرام الميت دفنه) وفي العادة يجب أن يتم ذلك في اليوم التالي للوفاة، لذلك كانت اللفتة الإنسانية للملك عبد الله الثاني متجاوزا كافة التعقيدات السياسية للظرف، مصدرا أمره الملكي بالسماح لخالد مشعل بالوصول للعاصمة عمّان في أسرع وقت ممكن، وهذا ما كان إذ وصلها صباح يوم السبت التاسع والعشرين من أغسطس 2009، حيث شارك في مراسم تشييع والده ظهر نفس اليوم ، وأمّ المصلين في صلاة الجنازة التي تمت في مسجد الجامعة الأردنية، ثم تمّ دفنه في مقبرة صويلح القريبة من العاصمة، وقد شارك في مراسم التشييع والعزاء كافة قيادات جماعة الإخوان وحزبهم (جبهة العمل الإسلامي) السابقين والحاليين. و في سابقة إنسانية للغاية أيضا قامت بلدية عمان بإقامة السرادق الخاص باستقبال المعزين بشكل يليق بالشيخ المرحوم، وقامت البلدية بحفر القبر أيضا. وهكذا فإن الموت والمبادرة الإنسانية للملك عبد الله الثاني حققت لخالد مشعل زيارة العاصمة عمّان رغم موقف الحزن والألم الذي لا مفر منه لأي شخص في المعمورة.

امتداد للفتات إنسانية سابقة
وإن كان الشيء بالشيء يذكر، فلا يمكن نسيان المبادرة الإنسانية للمرحوم الملك الحسين إثر تعرض خالد مشعل لمحاولة اغتياله من قبل الموساد في التاسع والعشرين من سبتمبر 1997، عندما هاجمه آنذاك عملاء الموساد أمام مكتبه في شارع الجاردنز، ورشوا سما خاصا في أذنيه، ولجأوا للسفارة الإسرائيلية، بينما تمّ نقل خالد مشعل للمدينة الطبية الأردنية، وكان تشخيص الأطباء أنه من المستحيل إنقاذ حياته دون الحصول على المضاد الخاص لذلك السم الذي تم رشه في أذنيه، وهنا تدخل المرحوم الملك حسين متصلا برئيس الوزراء الإسرائيلي نيتينياهو آنذاك مهددا بصرامة أنه سيلغي اتفاقية وادي عربة بين البلدين، إن لم يتم إرسال المضاد الخاص بذلك السم على وجه السرعة، وكان أن رضح نيتينياهو وأرسل المضاد على طائرة خاصة وبسرعة، حيث تمّ إنقاذ حياة خالد مشعل وعاده المرحوم الملك حسين في المدينة الطبية. وواصل المرحوم الملك حسين ضغوطاته على الحكومة الإسرائيلية حتى تم الإفراج عن الشيخ المرحوم أحمد ياسين، ونقل بطائرة خاصة للمدينة الطبية الأردنية حيث مكث عدة أسابيع للعلاج، وزاره الملك حسين قبل عودته لقطاع غزة.

توقعات ما بعد هذه المبادرة الإنسانية
هل ستنعكس زيارة خالد مشعل السريعة إثر المبادرة الملكية على العلاقات الأردنية مع حركة حماس كما تتوقع بعض التحليلات الإعلامية والسياسية ؟. الملاحظ أن المصادر الرسمية الأردنية لم تعلق على الزيارة، واكتفت بتسهيل كل ما يمكن لوصول خالد مشعل، و دعم إقامة مراسم تشييع وعزاء تليق بالشيخ المرحوم ومكانة نجله السياسية، كما أن خالد مشعل التزم في زيارته السريعة تلك بما تمليه واجبات المناسبة، فلم يصدر عنه أي تصريح صحفي سياسي أو عقد لقاءات صحفية، واكتفى بالكلمة التي ألقاها في سرادق العزاء مستذكرا نضالات والتزام والده المرحوم الشيخ عبد الرحيم مشعل، معبرا عن تأثره وسيره على خطى المرحوم (مواليد 1918)، وشارك في ثورة الشيخ عزالدين القسام، وكان ممن ناضلوا أيضا مع المرحوم الشيخ عبد القادر الحسيني.

توقعاتي المستقبلية الخاصة،
بالعلاقة الرسمية الأردنية مع حركة حماس، أنها ستبقى كما هي دون تطورات تؤدي لعلاقات أو حوارات خاصة بين الحكومة الأردنية والحركة، وذلك ليس لأن الأردن الرسمي ضد ذلك، ولكن لأن هناك عوائق رسمية موضوعية تحول دون ذلك وربما تدركها جيدا حركة حماس وهي:

أولا: العلاقة الرسمية الأردنية مع السلطة الفلسطينية
حسب الأعراف الدبلوماسية العربية والدولية، فالعلاقات الرسمية تكون بين الدول وليس بين دولة ما وأحزاب أو تنظيمات في الدولة الأخرى، لذلك منذ توقيع اتفاقية أوسلو 1993 وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية كممثل لدولة فلسطين المستقبلية، فكافة العلاقات العربية والدولية بين كل دولة والسلطة الفلسطينية التي اصبح لها ما لا يقل عن ثمانين (ممثلية أو سفارة) في الدول العربية ومختلف دول العالم بما فيها الأردن حيث توجد (سفارة فلسطين). وبالتالي فلا يستطيع الأردن الرسمي أن يقيم علاقة رسمية مع حركة حماس في ظل اعترافه بالسلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس كممثلين للدولة الفلسطينية التي يؤكد الأردن ويصرّ على قيامها ضمن حدود 1967 بما فيها القدس الشرقية. كما إنّ هناك ما لايقل عن خمسة عشر تنظيما وفصيلا فلسطينيا أيا كان حجمها وتأثيرها في الساحة الفلسطينية، فإن قامت علاقة رسمية بين الأردن وحماس فمن حق تلك التنظيمات المطالبة بالمثل، وهذا لا يجوز ولا تقبل به ولا تمارسه الآن أية دولة عربية أو أجنبية.
من الممكن أن يطرح البعض أن وضع حماس في الساحة الفلسطينية يختلف بعد فوزها في الانتخابات التشريعية في يناير 2007 وتشكيلها الحكومة الفلسطينية برئاسة إسماعيل هنية. وهذا صحيح ولكنه يقتصر على تشكيل حكومة فلسطينية داخلية، بينما رئاسة السلطة التي تمثل فلسطين عربيا ودوليا كانت وما زالت لمحمود عباس، وأيضا ففي العرف الفلسطيني هي حكومة تمت إقالتها من رئيس السلطة، وتمّ تشكيل حكومة جديدة برئاسة سلام فياض. كما أن الانقسام الفلسطيني السائد منذ أكثر من عامين بعد انقلاب حماس العسكري في القطاع، أوجد حكومتين ورئاستين فلسطينيتين، ووزارات مزدوجة في القطاع والضفة، وبالتالي فلا مناص عربيا ودوليا من التعامل مع السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس، وهذا هو الحاصل في كل الدول العربية والأجنبية المعترفة بدولة فلسطين رغم أنها ما زالت دولة شكلية على الورق فقط.

ثانيا : المواطنية الأردنية لغالبية قيادة حماس
وهي مسألة أشرت لها سريعا في بداية المقالة، فكل الأعراف الدستورية والحقوقية العربية والدولية لا تجيز ولا تسمح لمواطن دولة أن يكون عضوا أو قياديا في حزب أو تنظيم في دولة أخرى، فمن المستحيل أن تجد مواطنا نرويجيا عضوا في حزب سويدي مثلا، وبالتالي فكافة أعضاء حماس وقياديها الذين يحملون الجنسية الأردنية لا يحق لهم دستوريا عضوية الحركة، ولنا أن نتخيل هذه الازدواجية عندما يشارك نفس الشخص في انتخابات دوائر وقيادات الحركة وفي نفس الوقت يشارك في الانتخابات النيابية الأردنية، ويزداد الأمر غرابة عربيا ودوليا لو تم السماح بذلك، وفجأة تجد خالد مشعل رئيسا للمكتب السياسي لحركة حماس ورئيسا لمجلس النواب الأردني !!!!. وعندما أبلغ الأردن الرسمي قيادات الحركة الذين تمّ ابعادهم عام 1999 بحق أي منهم العودة للأردن وممارسة حقوقه وواجباته كأردني إن تخلى عن عضوية الحركة، فعل ذلك القيادي السابق في الحركة إبراهيم غوشة، وعاد للأردن كمواطن أردني فقط متخليا عن أية روابط أو علاقات له بالحركة.
لذلك وضمن هذه الأسس الدستورية والحقوقية والدبلوماسية المتعارف عليها عربيا ودوليا، لا أتوقع قيام أية علاقة خاصة بين الأردن الرسمي وحركة حماس، مثل كل الدول العربية والأجنبية. وبالطبع فإن هذا لا يلغي دور الأردن إن أراد التوسط بين الطرفين الفلسطينيين المنقسمين السلطة وحماس، فالوساطة سيكون هدفها تعزيز الكيان والوحدة الفلسطينية للمساهمة في الوصول للدولة الفلسطينية المستقلة، وهو أولوية أردنية لأنها تعزيز للمصلحة الأردنية والفلسطينية.
[email protected]