أؤكد في البداية بشكل قاطع أنني لست عضوا في حركتي فتح أو حماس، ولا علاقة رسمية لي بالسلطة الفلسطينية، ولا أتقاضى منها أية رواتب أو منح أو تذاكر طيران أو هدايا مادية أو كلمات مدح معنوية، وبالتالي فطرحي للسؤال عنوان المقال يهدف إلى الوصول إلى اجابة موضوعية معتمدة على الحقائق الميدانية المعاشة في القطاع والضفة منذ توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 وحتى اليوم، أي خلال عقدين من نضال وحصار وصمود الشعب الفلسطيني، كي نصل مع القراء إلى معرفة أسباب وحيثيات هذه الخلافات والحروب الفتحاوية الحمساوية التي كلفت الشعب الفلسطيني في القطاع تحديدا من القتلى والمشردين في الأعوام الثلاثة الماضية ما لا يقل عن الخسائر من طرف الاحتلال الإسرائيلي.

واقع دويلة عباس في رام الله
اعترف المجلس الوطني الفلسطيني في دورته المنعقدة بالعاصمة الجزائرية عام 1988 بدولة إسرائيل علنيا وصراحة وبموافقة كافة الفصائل الفلسطينية ما عدا حماس التي لم تكن قد ولدت بعد من رحم جماعة الإخوان المسلمين، وكان هذا الاعتراف عندما وقف عرفات يعلنquot;قيام دولة فلسطين ضمن حدود عام 1967 quot; وسط تصفيق الجميع، في الوقت الذي كانت فيه دولة إسرائيل تمنع أية اتصالات بمنظمة التحرير الفلسطينية وتحاكم من يقوم بذلك من مواطنيها. ثم عقد مؤتمر مدريد عام 1991 بحضور فلسطيني ضمن الوفد الأردني، وتواصلت الاتصالات السرّية التي أوصلت لتوقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 التي أعقبها عودة قيادة المنظمة برئاسة عرفات إلى القطاع والضفة. وظلت قيادة السلطة الفلسطينية مستمرة في اتصالاتها ومفاوضاتها العلنية مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة حتى اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000 بسبب المماطلات الإسرائيلية، ثم تطورت الأوضاع مؤدية لحصار عرفات في المقاطعة في رام الله، ثم وفاته في باريس وخلافة محمود عباس له. وضمن كافة هذه التطورات ظلت السلطة الفلسطينية معترفة بدولة إسرائيل، رافضة اللجوء للخيار العسكري بل تعتقل من يمارسه رغم السماح بتشكيل ما عرف بسرايا القدس كذراع مسلح لفتح في زمن الرئيس عرفات وبدعمه كما يشاع. و كانت كل صغيرة وكبيرة من الحياة اليومية للمواطن الفلسطيني تمر عبر الموافقة الإسرائيلية من خلال التحكم في المعابر المؤدية للقطاع والضفة، بما فيها مسؤولو ووزراء السلطة رغم تنقل بعضهم ببطاقات quot; في آي بي quot; ( شخص مهم جدا )، ورغم هذا فقد تمكنت السلطة منذ عام 1996 من ادخال وعودة ما لا يقل عن مائة وخمسين ألف فلسطيني رغم المعارضة الإسرائيلية العلنية لعودة اللاجئين.
و هناك العديد من الملاحظات السلبية ضد السلطة الفلسطينية في زمن عرفات وعباس خاصة فيما يتعلق بموضوع الفساد والمحسوبية واستغلال الوظيفة خاصة من قبل المسؤولين الكبار، الذين وصل البعض منهم للقيام بأعمال لا وطنية ترقى لمستوى الخيانة كما يسري في الشارع الفلسطيني عن استيراد بعض الوزراء للاسمنت المصري لحساب شركات إسرائيلية تعمل في بناء الجدار العازل بين الضفة ودولة إسرائيل، وقيام عضو لجنة مركزية في حركة فتح ورئيس مجلس تشريعي سابق بالمساهمة الفعلية في بناء مستوطنة أبو غنيم الإسرائيلية، وغير ذلك من أعمال التنسيق الأمني التي كانت وما زالت تتم للمحافظة على الأمن الإسرائيلي فقط، بينما من المعيب والمخجل والمحرج للسلطة وأجهزتها الأمنية ان الجيش الإسرائيلي يتجول في كافة شوارع ومدن الضفة الغربية، يفتش المنازل ويعتقل من يشاء دون أي رد أو احتجاج من السلطة الفلسطينية، لأنها غير قادرة على ذلك ولا تملك أية آليات احتجاج أو رد، وبالتالي لا يمكن اعتبار الضفة إلا أنها محتلة بشكل من الأشكال، تماما كما كان القطاع قبل الانسحاب الإسرائيلي من طرف واحد في أيلول 2005.

واقع إمارة حماس
كانت حماس ذات حضور جماهيري في القطاع منذ زمن الرئيس عرفات، لكن الهيبة الجماهيرية والنفوذ المتزايد لعرفات لم يجعل الحركة تجرؤ على أية مشاكسات أو مضايقات له، خاصة بسبب تصاعد سياسة اليمين الإسرائيلي في زمن الحي الميت شارون، التي أوصلت الوضع الفلسطيني لتأزيم لا مثيل له، وصل إلى حد محاصرة عرفات في مقره بالمقاطعة في رام الله إلى حين خروجه للوفاة في باريس في نوفمبر 2004، وخلافة رئيس المحلس التشريعي الفلسطيني آنذاك روحي فتوح ( فتوح موبايل دوت كوم ) بصفة مؤقتة، وأعقب ذلك انتخاب محمود عباس رئيسا للسلطة الفلسطينية.
أسفرت الانتخابات التشريعية الفلسطينية في نهاية يناير 2006 بفوز حماس بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني، مما أهلها لتشكيل الحكومة الفلسطينية برئاسة اسماعيل هنية الذي أشاد بنزاهة الانتخابات وديمقراطية محمود عباس. أعتقد أن الغالبية التي صوتت لحماس لم تصوت للبرنامج السياسي لحماس الذي لا يختلف كثيرا عن برنامج عباس، ولكنها صوتت ضد الفساد والاستحواذ والهيمنة والتسلط الفتحاوي.
ماذا أعقب فوز حماس؟
كان فوز حماس مفاجأة مذهلة لفتح وحماس. فتح لم تصدق أن تخسر الانتخابات بعد هيمنة كاملة مطلقة على الساحة الفلسطينية سياسيا وعسكريا وماليا وإعلاميا منذ انطلاقتها في عام 1965، إلى درجة أن كافة الفصائل الفلسطينية الأخرى التي يزيد عددها عن عشرين، كانت مجرد نجوم صغيرة غير مضيئة تطوف حول القطب الأكبر فتح. وكذلك حماس لم تصدق أنها تفوز بأغلبية المجلس التشريعي، وهي الحركة حديثة الولادة في عام 1988 تقريبا، أي بعد انطلاق فتح وغيرها من الفسائل ( السين هنا ليست خطأ مطبعيا ولكنها مقصودة ) بحوالي ربع قرن. لذلك أعقب هذا الفوز الحمساوي ممارستان:
الأولى: فتحاوية هدفها ابقاء حكومة حماس مجرد ديكور شكلي في الحياة الفلسطينية، بينما تبقى الصلاحيات التنفيذية في كافة الميادين بيد المسؤولين الفتحاويين خاصة الأجهزة والقوى الأمنية والمخابراتية.

الثانية: حمساوية هدفها ممارسة السلطة وصلاحيات الحكومة برؤى شمولية حماس كتنظيم اسلامي يرقى لحد امتلاك التوكيل الالهي مما أهلها فعلا لتسمية quot; إمارة حماس quot; في القطاع. فبدأت بتطهير تنظيمي لاستبعاد كافة مسؤولي حماس من كافة الدوائر والوزارات، وتشكيل القوة التنفيذية الأمنية الخاصة بها بدلا من محاولة ممارسة صلاحياتها الحكومية تدريجيا على الأجهزة القائمة. وهنا بدأ الصدام الفتحاوي الحمساوي ليس لهدف طرد الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، ولكن بهدف استمرار السلطة والنفوذ والمال بيد واحدة لا يشاركها آخرون فيه.
حماس لا تختلف سياسيا عن السلطة
وضمن محاولات حماس البقاء في السلطة سعت أيضا لتقديم برنامج سياسي يرضي الإسرائيليين ودوائر القرار الغربي، فأعلنت في القطاع منذ زمن المرحوم الشيخ أحمد ياسين، أنها توافق على هدنة طويلة الأمد مع الطرف الإسرائيلي، عاد رئيس الحكومة اسماعيل هنية لتجديد هذا الطرح محددا المدة طويلة الأمد بستين عاما، بينما خالد مشعل في دمشق طالما كرّر للإعلام الأمريكي تحيدا موافقة حركته على قيام دولة فلسطينية ضمن حدود عام 1967. ويلاحظ بعد مرور عام على الاجتياح الإسرائيلي للقطاع في ديسمبر 2008، لم تطلق حماس رصاصة ضد الاحتلال، بل تقوم باعتقال ومطاردة كل من يحاول اطلاق الرصاص أو الصواريخ الكرتونية، إلى درجة أن الحركة قامت بنسف وتدمير مسجد ابن تيمية في مدينة رفح فوق رؤوس وأجساد جماعة متشددة لخروجها على طاعة ولاة الأمر الحمساويين، وقتلت منهم حوالي عشرين من ضمنهم موسى عبد اللطيف مسؤول الجماعة وجرحت العشرات، ليكونوا عبرة ودرسا لغيرهم مفاده: أنظروا وتمعنوا فنحن نقتل كل من يخرج عن طاعتنا حتى لو كان خروجه بغطاء اسلامي ديني.

النتيجة: الخلاف على السلطة والنفوذ فقط
وهكذا فالحقيقة أّن حماس لا تختلف كثيرا عن فتح في الممارسة والبرنامج، وبالتالي فالحرب بينهما المشتعلة منذ عدة سنوات، لا تهدف لدحر الاحتلال وتعزيز مقومات قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على أية حدود، وإنما لاستمرار الهيمنة والنفوذ من طرف واحد منهما فقط دون مشاركة الغير، وبالتالي فالنتائج القائمة التي سوف تستمر طويلا:
أولا: استمرار الحرب الفتحاوية الحمساوية مترافقة مع تطهير للحمساويين في الضفة والفتحاويين في القطاع كما هو حاصل منذ أربعة سنوات و أكثر.
ثانيا: استمرار الانقسام الحالي الذي سيعمق واقع ديكوري شكلي لا يملك من أمره شيئا: quot; إمارة حماس في غزةquot; و quot;دويلة عباس في رام الله quot;، وبالتالي تعميق الشرخ والانفصال وصولا لشعب quot;غزاوي quot; و quot;شعب ضفّاويquot;، ربما يقوم بين الدويلة و الإمارة مستقبلا اعترافا دبلوماسيا وتبادلا للسفراء، وما سيعمق ويعزز ذلك هو عدم وجود حدود مشركة بين الإمارة والدويلة، وهذا من نعم الجغرافيا فلو وجدت حدود مشتركة لشهدنا حروب عصابات بينهما وقصف بري لا مثيل له.
[email protected]