يكاد من الصعب إحصاء عدد جولات الحوار الفلسطيني التي رعتها مصر بإشراف الفريق عمر سليمان رئيس جهاز المخابرات المصري و مساعديه، وتتابع هذه الجولات رغم فشلها الواحدة تلو الأخرى، يدلّ على رغبة وإصرار مصريين في أن لا تترك الساحة الفلسطينية مهددة باستمرار الانقسام والتحارب، اللذين أوقعا من الخسائر الفلسطينية ليس أقل من الخسائر على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي. كما أن الإصرار مرده إلى أن مصر وجهاز مخابراتها أدرى من كافة الدول والأجهزة العربية بنسيج المجتمع الفلسطيني في القطاع، لكون القطاع كان يدار من قبل الإدارة العسكرية المصرية منذ عام 1948 وحتى عام 1967، وغالبية التنظيمات الفلسطينية التي نمت في القطاع بدأت بذورها الفكرية والتنظيمية في تلك المرحلة. انطلاقا من هذا الإصرار جاءت الورقة المصرية الأخيرة التي قدمت للتنظيمات الفلسطينية، كإطار جديد للتفاوض حولها وصولا للمصالحة الفلسطينية المنشودة من الشعب الفلسطيني. وقد بدأت تتوالى ردود فعل هذه الفصائل على الورقة المصرية هذه، دون أية إشارات إيجابية من هذه الفصائل توحي أن المصالحة ستتم والإنقسام سينتهي، بينما أجلت حماس ردها النهائي لما بعد عطلة عيد الفطر.

بنود هذه الورقة
الملاحظ أن هذه الورقة قد حاولت تقديم إطار جمعي عام لا يعبر عن مخططات أي تنظيم فلسطيني، بقدر ما إنها تهدف إلى أن يكون هذا الإطار مدخلا توافقيا عاما من منطلق عدم منطقية الانقسام والتقاتل في أي مجتمع ودولة، لمجرد الخلاف في وجهات النظر حول بعض المسائل الداخلية ذات الطابع الإجرائي التي لا قيمة لها ، مقابل وحدة شعب وسعيه لتحقيق طموحات وطنية يعمل من أجلها منذ ستين عاما.

الانتخابات التشريعية والرئاسية
اقترحت الورقة المصرية أن quot;تجري الانتخابات التشريعية والرئاسية وانتخابات المجلس الوطني الفلسطيني في النصف الأول من العام المقبل ( 2010 )، على أن تكون انتخابات المجلس الوطني بالنظام النسبي الكامل، وتكون انتخابات التشريعي بالنظام المختلط 25 في المائة نسبي، وأن يجري تقسيم الوطن إلى 16 دائرة انتخابية 11 في الضفة و 5 في القطاعquot;.

ولأن كافة المنظمات الفلسطينية تنظر لما ستحققه كتنظيمات من هذه الانتخابات بما يعني مصلحتها التنظيمية أولا، فقد توالت ردود الفعل على هذا البند من الورقة المصرية من منطلقات غير وطنية عامة في الغالب، بقدر ما هي تنظيمية مصلحية ضيقة، يعتقد كل تنظيم أنها ستحقق له الفوز في تلك الانتخابات. فلمجرد تسجيل موقف ولو لا معنى له، أعلن عباس زكي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح quot;فيما يتعلق بالانتخابات نوافق أن تجري الانتخابات كما يقول الإخوة المصريون، ولكن بما لا يتجاوز النصف الأول من العام القادم). ماذا أضاف من جديد تصريح عباس زكي، عندما تنصّ الورقة المصرية على إجراء الانتخابات (في النصف الأول من العام المقبل)؟.أما الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فترى quot;في مقترح النظام الانتخابي المختلط ( 25 % دوائر و 75 % نسبي خروجا عما تم التوافق الجماعي عليه في حوار القاهرة في مارس 2009، وترفض عدم تحديد موعد دقيق لعقد الانتخابات، وترى في ذلك سببا لاستمرار الانقسام). وما يثير الغرابة والدهشة أن حركة الجهاد الإسلامي (المنشقة سابقا عن حركة حماس) تطالب أيضا بتحديد موعد للانتخابات رغم أنها لم تشارك في انتخابات سابقة كان متفقا عليها بين فتح وأمها الشرعية (حماس).
وموقف حماس أكثر غرابة فهي ترفض الدخول في أية تفاهمات قبل إنهاء ملف معتقليها في سجون السلطة الفلسطينية، بينما لا يهمها موضوع معتقلي فتح في سجونها أو عودة كوادر فتح الهاربين من قمعها ومطارداتها. وهكذا فكل تنظيم له أجندته المصلحية الخاصة الضيقة التي لن تؤدي لتوافق أو تفاهم على موضوع الانتخابات التسريعية والرئاسية، لأن هناك تنظيمات مثل حماس يوافق مصلحتها مسألة تأجيل الانتخابات إذ ربما تتمكن من التمديد للمجلس التشريعي الحالي الذي لها فيه الأغلبية لمدة سنتين جديدتين، بينما حركة فتح غير متأكدة من امكانية فوزها بأغلبية تمكنها من دحر حماس دستوريا، وباقي الفصائل مثل الجبهتين الشعبية والديمقراطية وحركة الجهاد، فلا يتوفر لها قاعدة جماهيرية تمكنها من الفوز بالعدد الذي يؤهلها لأن تكون رقما داخل المجلس التشريعي، بدليل أن الحوار الفلسطيني يجري منذ سنوات بين حركتي فتح وحماس فقط، وباقي المنظمات والفصائل التي يزيد عددها على عشرة مجرد بيانات صحفية في المناسبات التي لا تنتهي. والأهم هو هل ستقبل حركتا فتح وحماس بنتائج الانتخابات إن كانت دحرر واحدة منهما مما يعني انهاء سيطرتها المطلقة في القطاع أو الضفة؟.

اللجنة الأمنية العليا
تنص الورقة المصرية على (تشكيل لجنة أمنية عليا بمرسوم رئاسي من الرئيس محمود عباس، ويجرى الاتفاق على ضباط مهنيين بالتوافق يخضعون لإشراف مصري، وتتولى هذه اللجنة مهمة إعادة بناء الأجهزة الأمنية على أساس مهني بمساعدة وإشراف مصري). وهذا البند رغم وضوحه في الورقة المصرية، فتنفيذه مرهون بالنوايا الفلسطينية، فهل تقبل حماس بلجنة أمنية تتشكل بناء على مرسوم رئاسي من الرئيس عباس الذي تعتبره غير شرعي ولا تعترف برئاسته، الذي هو بدوره لا يعترف بحكومة حماس الحالية في القطاع، لأنه سبق أن أصدر مرسوما بإقالتها وتشكيل حكومة بديلة برئاسة سلام فياض. كما أن تشكيل هذه اللجنة الأمنية العليا يعني عمليا إنهاء وتفكيك القوة التنفيذية التابعة لحماس، وكافة أجهزتها الأمنية، وإن تمّ استيعاب بعضهم أو كلهم في التشكيل الجديد الذي نصّت الورقة المصرية على استيعاب ثلاثة ألاف عنصر من الشرطة والدفاع المدني والأمن الوطني فيه، على (أن يكون هناك ضمان وظيفي لكل الموظفين العموميين)، مما يعني ضمان رواتب من لا تستوعبهم التشكيلات الجديدة. وهكذا فالكرة أيضا فيما يتعلق بهذا البند في الملعب الفلسطيني، فهل تقبل حركتا فتح وحماس بهذا التشكيل الجماعي المشترك لأجهزة الأمن، أم تريد حماس استمرار قوتها التنفيذية في القطاع، وترغب فتح في سيطرة أمنها الوقائي في الضفة؟.

المعتقلون لدى كل طرف
لم تتجاهل الورقة المصرية موضوع المعتقلين الفتحاويين والحماسيين لدى الطرف الآخر، ونصّت على (تحديد قوائم المعتقلين فور توقيع الاتفاق وفق الوضع الحالي، وتسليم القوائم لمصر ومؤسسات حقوقية وقانونية، ويقوم كل طرف بالإفراج عن المعتقلين المتواجدين لديه، على أن يسلّم كل طرف قائمة بالأسماء التي يتعذر الافراج عنها). ورغم هذا الوضوح الملازم لرفض عمليات الاعتقال الانتقامية المتبادلة بين الحركتين، إلا أنّ حماس تشترط الإفراج أولا عن معتقليها قبل توقيع الاتفاق، وهو شرط تعجيزي في سياق عدم ذكرها لمعتقلي فتح لديها.
أما رد منظمة التحرير الفلسطينية فهو مجرد روتيني لا قيمة له، لأن منظمات مثل حماس والجهاد الإسلامي غير ممثلة في المنظمة، وتعتبرها مجرد ملحق من ملاحق السلطة الفلسطينية خاصة بعد الخلافات الأخيرة بين قيادات فتح، التي نجم عنها تجميد الدائرة السياسية للمنطمة التي يرأسها فاروق القدومي، وإحالة الموظفين فيها للسفارة الفلسطينية في تونس. لذلك فإن الخلل ليس في الورقة المصرية، بل في الأنانية الفلسطينية التي ينجم عنها تغليب كل تنظيم لمصلحته الخاصة على المصلحة الوطنية لشعب بكامله.
[email protected]