كالخنجر تطعنني ذكراها المستقرة أبداً في مكان ما من مساحة الضمير الذي يشعر بمعاناة الأنسان والوجع من أجله... كالعذاب السرمدي تتوجع روحي بحكايتها ومنظرها وبؤسها... وأتساءل مع كل لحظة عذاب: لماذا ياإلهي كل كل هذا الشقاء للأنسان اذا كانت قدرتك اللامتناهية بأمكانها ان تجعله يعيش حياة خالية من الشر والمعاناة والحرمان؟

أحداث الحكاية يعود تاريخها الى قبل أكثر من 40 عاما حينما كنت صغيرا أعيش مع عائلتي في العراق في حي شعبي للفقراء أغلب بيوته من الأكواخ والطين وسعف النخيل... كنا جميعا سكان ذاك الحي يطحننا الفقر، وكانت حالة الفقر الجماعي تلك تخفف عنا بعض الشيء الشعور بأستهداف الأقدار لنا وحدنا وتجعلنا نخدر الوعي بأوهام وتطمينات جاهزة صنعها لنا رجال الدين واصحاب الخطب الأخلاقية المثالية، والأثرياء الذين يريدون إبعاد حسد وكلام الناس عنهم، ومن يطلع على المقولات الدينية والأخلاقية والشعبية التي تمتدح الفقر وتتغنى به وتمجده... يظن ان قوانين الحياة والمنطق كلها خاطئة بخصوص أهمية الرفاهية والوفرة والمال وتأمين الحاجات الضرورية للأنسان، فالمواعظ والحكم الأخلاقية والدينية التي تتحدث عن مزايا ومكانة الفقراء لدى الله.. نموذج فظيع للديماغوجية والهذيان وخداع الذات والآخرين.

كانت أمراة متزوجة ولديها أطفال، وزوجها مصاب بمرض مزمن قاهر أجلسه في البيت، وفي دولة كالعراق لايوجد شيء أسمه الضمان الأجتماعي، ولاتوجد مؤسسات أجتماعية أو دينية أهلية تقوم بواجبها الأنساني نحو المحتاجين، فأصبحت تلك العائلة في ورطة ومأزق وحاجة أكثر من ضرورية الى لقمة العيش، وكان لابد من العثور على حل، وجاء الحل بأن تعمل المرأة داخل البيت في صناعة ( الزبلان والحصران من خوص النخيل ) وللقاريء العربي أوضح: ان هذه الصناعة عبارة عن عمل أشبه بشنطة التسوق من الخوص تسمى ( زبيل ) وايضا عمل سجادة من الخوص يطلق عليها ( حصير ) وتذهب بها المرأة الى السوق وتعرضها في الشارع لتبيعها!

كنت أرى عذاباتها وهي تحمل منتوجاتها منتظرة على قارعة الطريق ان يرق لها قلب أحد سواق سيارات الأجرة ويقبل بنقلها، فرغم انها كانت تدفع أجور الرحلة من الحي الى المدينة لسائق السيارة إلا ان معظمهم يرفضون نقلها وينزعجون من حجم منتوجها الذي يأخذ حيزاً في السيارة.. لغاية هذه اللحظة لاأستطيع تخيل وحشية سائق السيارة الذي يرفض مساعدة أمرأة عظيمة تريد نقل بضاعتها الى المدينة وبيعها وتوفير لقمة العيش الى أطفالها، ولعل هذا أحد الأدلة التي تؤكد أن غالبية البشر في كل مكان وزمان هم أشرار!

وفي المدينة تبدأ رحلة الذل والمهانة... فعادة النساء الفقيرات من أمثالها يعرضن بضاعتهن في الشارع امام حركة الناس وينتظرن بيعها في مقامرة ربما لاتنجح ولاتباع البضاعة وتضطر الى العودة بها مجددا الى البيت وتحمل إذلال سواق سيارات الأجرة لها، وفي الشارع يبدأ فصل جديد من الجحيم مع أصحاب المحلات المطلة عليه الذين يقومون بكل وحشية وخسة ودناءة بشتم النساء اللائي يفترشن الشارع وطردهن بحجة ان وجودهن يضايق محلاتهم... وهذا دليل آخر على ان غالبية البشر أشرار دائما!

حينما كنا نلعب في شوارع الحي.. كان أبنها الكبير يقف يتفرج علينا منكسرا يسحقه الفقر والحرمان... فهو لايستطيع شراء طائرة ورقية بسعر 5 فلوس، وفي وقتها كان الفلس الواحد أصغر عملة عراقية مما يعني انه لايملك ثاني أصغر عملة، وكان دائما يردد أمامنا ان مبلغ 5 الفلوس يفضل ان يشتري به رغيف خبز لعائلته... يالجحيم الانسان الذي من دون ذنب يجد نفسه ولد في مكان تعيس وعائلة معدمة فقيرة... فيدفع ثمن قدر أو صدفة هو لم يخترها ولايريدها فتصبح حياته ألعوبة تافهة بيد ظروف لعينة فُرضت عليه، ويتحول الى كرة تتقاذفها أمواج الأحداث والأقدار وفي النهاية يحسب عليه عمرا وحياة ويُحمل المسؤولية ويحاسب من قبل المجتمع والدين والقانون!

توفى الأب المريض وظلت المرأة تعمل بشرف وشجاعة، كنت في بعض الأحيان أشاهد أبنها صديق طفولتنا وقد أصبح موظفا بعد ان نجحت أمه في دفعه الى اكمال دراسته... كنت أنظر اليه بصمت، وأتذكر فصوله حياته وأتساءل: هل يتخيل ان محطات حياته وعائلته تستقر في ذاكرة وضمائر الذين عاش معهم، وأعيد السؤال على نفسي: من يدري نحن كذلك فصول حياتنا منثورة ومزروعة في ذاكرة من عاش معنا.

[email protected]