انتشرت في الآونة الأخيرة في العالم العربي ظاهرة إنشاء الجامعات في الأقاليم والمناطق البعيدة عن العواصم والمدن الرئيسية، حيث استدعت الكثافة السكانية التي تشهدها المدن الرئيسية، وكثرة الهجرة من الأرياف إلى المدن، استدعت أن تقوم الدول العربية بإنشاء جامعات في الأرياف والمناطق البعيدة عن العواصم، وهذا أمر جميل في حد ذاته، ينقل التعليم العالي إلى مستحقيه في كل مكان، ويسعى إلى تطوير المناطق البعيدة عن العواصم والمدن الرئيسية، كما يسهم في تمدن الريف، وفي زيادة الوعي العلمي والمعرفي.
في مصر مثلا أنشئت جامعات في قنا والفيوم، وجنوب الوادي، فضلا عن الجامعات التي أنشئت من قبل في عدد من المحافظات خارج القاهرة مثل: المنصورة، وطنطا، وأسيوط، وسوهاج وغيرها من المحافظات، وفي السعودية توسعت الحكومة في إنشاء الجامعات بشكل غير مسبوق فأصبح لكل منطقة جامعة، حيث جامعات: الجوف، وجيزان، والباحة، والقصيم، والطائف، وغيرها، والأمر نفسه يحدث في بلاد الشام وبلاد المغرب.
ومع هذا التوجه إلى نشر التعليم العالي خارج العواصم والمدن الرئيسية في البلاد العربية فإن ثمة معضلات تواجه هذا التوجه، ذلك لأن سؤال المستوى المعرفي لأكاديميي وطلاب هذه الجامعات الجديدة يظل موضع تساؤل كبير، حيث لا ينتسب إلى هذه الجامعات ndash; على الأغلب- سوى الطلاب والطالبات من القاطنين لهذه المناطق البعيدة، ومن هنا سيظل تعليمهم تعليما ريفيا، لأنهم لم يعايشوا حياة المدينة، فضلا عن ذلك فإن الأكاديميين أنفسهم الذين سيحملون مشاعل العلم والمعرفة إلى هؤلاء الطلاب والطالبات يكونون دائما من الصف الثاني والثالث والرابع بل والعاشر الأكاديمي، لأن منتهى طموحهم كان هو الحصول على الدكتوراة بأي شكل وأية صيغة، بتحقيق مخطوطة، أو بالكتابة عن فلان الفلاني حياته وشعره، أو باجترار بحث أو نظرية علمية معروفة، وهم ليس لهم إسهام علمي أو بحثي كبير، ولا يشاركون في الحياة المعرفية العامة، وهم بعيدون عن حياة المدينة الصاخبة، وبالتالي هم بعيدون عن متابعة القضايا العامة، فضلا عن القضايا التي تخص مجالاتهم العلمية، والأمر الأخطر هنا أن ثقافتهم وتحصيلهم يظل طيبا وبريئا لم تدنسه جرثومة التجربة، ولم تحككه المواقف أو الخبرة، وبالتالي سوف ينتجون لنا أجيالا تقليدية، مطواعة، تؤمن بالمسلمات، وتنعس تحت ظلال التقاليد.
كانت جامعات العواصم تمثل حلما للأجيال السابقة، فالمسألة لا تتعلق فحسب بالدراسة الجامعية، ولكن بمعايشة حياة المدينة وصخبها، المدينة التي تضم الصحف والمجلات ودور السينما والمسارح ومعاهد الموسيقى، والمتاحف، والملاعب الرياضية والحدائق العامة، والمقاهي، والمطاعم الكبرى، والفنادق، ومختلف الوزارات والمؤسسات الحكومية، المدينة المفتوحة على الزوار من الداخل والسياح من الخارج، المفتوحة كعالم كبير تلتقي فيه مختلف الأنماط والنماذج الإنسانية، وتلتقي فيها من خلال شواهدها الأثرية والسياحية مختلف الأزمنة مما يثري الحواس، ويعلي من شأن العقل والفكر والقلب، ويعطي قدرا من الجرأة في معايشة الحياة المعرفية، ويفضي إلى إحداث أسئلة جديدة وهواجس متميزة. هذه المدينة لن يعايشها الطلبة في الجامعات الريفية والإقليمية والمناطقية، ولن يمتزجوا بوجوه متعددة، ولن يقرأوا شخصيات أخرى متنوعة، ولن يتعرفوا على الشخصيات العامة في المجتمع، ولن يقيموا تجارب عاطفية ذات بال، ولن يمارسوا الحياة الإنسانية المدنية التي تمكنهم من مواجهة عصر العلم وعصر المدنية والحضارة، سيظلون قابعين هناك في مناطقهم النائية، وستظل علاقتهم بحياة المدينة علاقة ورقية في الكتب فحسب، أو حتى على شاشات الكومبيوتر والإنترنت، ولكنهم لن يخبروا الحياة من خلال نماذجها الإنسانية المتعددة بشكل مباشر، وسيظلون يعانون من العزلة والانغلاق.
إن كبار الأدباء والكتاب والمثقفين والعلماء يعيشون في المدينة، وقد صورت لنا السينما المصرية قديما في عدد من الأفلام كيف كان الطلبة القادمون من الريف يحلمون بحياة المدينة، ويتوجسون في البداية من العيش بها، أو الاختلاط بسكانها، ثم تدريجيا يتكيفون مع حياة المدينة ويصبحون من أعضائها الفاعلين، كما تصور لنا سير كبار الأدباء والمفكرين والعلماء الذاتية كيف أثرت المدينة في تجاربهم وتحولاتهم حين انتقلوا إلى التعليم في العواصم.
سوف تحرم الجامعات الريفية الإقليمية طلبتها وأساتذتها من خبرة الحضارة، خاصة وأن هذه الجامعات ينظر إليها بنظرة دونية من جامعات العواصم، كما أن الدول العربية لا تهتم كثيرا بهذه الجامعات اهتمامها بجامعات العواصم، وربما يعلو الهاجس الطبقي وليس المعرفي بين جامعات العواصم والجامعات الريفية، وهو ما يتأكد بالفعل حتى عند التوظيف والعمل في الحياة العامة، فخريج جامعة القاهرة أو عين شمس مثلا، يلقى من الحفاوة ما لا يلقاه خريج جامعة طنطا أو الزقازيق مثلا، وخريج جامعة الملك سعود بالرياض أو جامعة الملك عبدالعزيز بجدة، في مكانة أخرى غير خريج جامعة الجوف أو حائل.
وتستأثر جامعات العواصم بصفوة الأكاديميين، بل وبصفوة الطلبة والطالبات، وعلى ذلك فإن التوسع في إنشاء جامعات ريفية يحدث نوعا من الفوارق العلمية والمعرفية، وينتج أجيالا ذات مستويات معرفية ضعيفة، كل في مجاله الأدبي أو العلمي أو البحثي، وتظل المسألة مرتبطة بالجهد الفردي للطالب أو الأكاديمي وبمدى ما يبذله للحاق بمستويات جامعات العواصم، حتى لا يوصم بأنه خريج جامعة ريفية أو خريج جامعة من الدرجة الثالثة.