تملك ثورة السوريين اليوم، شرف كونها ليست فقط ثورة ضدّ نظام سياسي أمني، بل تتجاوز ذلك كلّه إلى تخوم ثورات أخرى، تشتعل ضد كل أشكال التفكير التي سادت الحياة السورية والمجتمع السوري في المئة عامٍ الماضية، فبرزت ثورة الأسئلة من بين الشرر المتطاير من قذائف الدبابات والمدافع ضد شارعٍ خرج سلمياً للتعبير عن رأيه.
من تلك الأسئلة، سؤال العيش المشترك، الذي أخضع الشعب السوري لجدلية معقّدة نبعت منه، طويلاً، دون أن يردّها عن ذاتها وهي قدّمت كاتهام كبير وواسع أو حتى دون أن يقوم بمراجعتها وإعادة النظر فيها، ومن سيقوم بتلك المراجعة؟ إذا لطالما كانت النخب السورية منشغلة بما هو خارج الحياة السورية والمجتمع السوري، وما عناها منه كان الصراع على المسرح السياسي، أكثر من الصراع على الشارع، وقد عاش السوريون منذ منتصف القرن التاسع عشر، وهم يذودون عن أنفسهم تهمة سوداء، ويطالبون بالتصريح الدائم عن كونهم (غير طائفيين)، وهي الندبة التي تركتها في حياتهم أحداث العام 1864 ما سمّوه وقتها (الطوشة) والتي تركت طويلاً بين أيدي مؤرخين لم يهتموا كثيراً بتفكيكها وشرحها، ورضوا بوصفها كحرب أهلية دامت أياماً فقط!! ولكن ردود الفعل عليها ما تزال تستعر حتى اللحظة.
وسيجد من يبحث في تلك الأزمنة، أن ما حدث في دمشق من نزاع ما بين المسلمين الدروز ثم السنة من أهل الشام من جهة والمسيحيين الدمشقيين من أهل القصاع، وهو امتداد لما كان يحدث في جبل لبنان من سفك دماء أشرفت عليه القوى التي رسمت شكل لبنان وعادت بناءه ديمغرافياً حينها، لم يكن ذلك التماس أكثر من نزاعٍ على ملكية أدوات إنتاج مادية صرفة، مثّلتها أنوال صناعة الحرير نفط ذلك الزمان في الحي المسيحي، فكانت بيوت المسيحيين تقتحم ويقوم المخربون بحرق الأنوال دون قتل الأنفس!!! تزامن مع ذلك عرضٌ سخيٌ من بريطانيا وفرنسا بتوطين أولئك المسيحيين المساكين في الريف الفرنسي والانجليزي لإنقاذ أرواحهم وصناعاتهم، لولا تدخّل أحد رجالات ذلك العصر الذي منع تهجير المسيحيين المنظّم، وأعاد توطينهم في بيوتهم بعد أن احتضنهم في (ملكاناته) في حوش بلاس ودمّر والعمارة، كان الأمير عبدالقادر الجزائري، يدرك أن القصة ليست نزاعاً دينياً، ولا حرباً طائفية ولا من يحزنون.
بعدها اشتغل الباب العالي على التحقيق في الأمر، درءاً لردود الفعل من الدول الغربية، واتهم وجهاء وأعيان دمشق وتجارها وشيوخها بالتواطؤ، وقام بتهجيرهم ونفيهم سنواتٍ خارج المدينة بل خارج بلاد الشام، وتم إفراغ دمشق من طبقاتها الرفيعة، وظهرت الفئات التي تشاركت في المصالح مع الوالي العثماني، وظهر السؤال: هل أنت طائفي؟!
بمرور عقودٍ على تلك (الطوشة) تغيّر كل شيء، وانهارت السلطنة العثمانية، وبدأ مشروع الدولة الوطنية في سوريا، وثورة الاستقلال عن المستعمر الفرنسي، ثم بناء الجمهورية، وهويّة الدولة، والوحدة مع مصر، والانفصال، وانقلاب البعث في آذار 1963، وتحوّل الدولة إلى دولة حزبية ثم دولة فردٍ تقتات على أدوات الاستبداد، ثم التوريث، ثم الثورة الآن...كل هذا حصل..ولم يتغيّر السؤال، وظل السوريون يردّون عن أنفسهم الاتهام.
ومما مرّره وجود ذلك السؤال الماكر في حياة الناس في سوريا، فكرة أن العلويين، وهم جزء من التكوين السوري ومنهم ينحدر رأس النظام بشار الأسد وغالبية رؤساء الفروع الأمنية وجنرالات الجيش السوري وأركان الدولة، تعرضوا لاضطهاد كبيرٍ وعزلٍ عن المجتمع، وتنكيل حرمهم حقوقهم البسيطة، ولذلك فعلينا أن نراعي حساسيتهم تجاه سنوات الظلم والاضطهاد، وتمت برمجة المجتمع السوري على أن هؤلاء ضحايا سابقون، ولذلك لا يجب استفزاز جراحهم، ودأب المثقفون على تزيين كتاباتهم، بدبوس دائم، وهو أنهم متعاطفون مع العلويين المساكين، ومناوئين لتفكير شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وآخرين، ممن منعت أعمالهم من البيع في المكتبات السورية، واستمرّ هذا وصولاً إلى لحظة اندلاع الثورة السورية في آذار من هذا العام، حتى تحوّل السؤال إلى محكمة ميدانية تنفّذ أحكام الإعدام في الشوارع، ضد الابرياء، ولافتات المظاهرات، وحناجر المغنين، واصابع الرسامين، وبيوت الممثلين والصحفيين والكتاب..فأصبح الشارع السوري طائفياً يمارس العنف ضدّ الطائفة العلوية المضطهدة...في الوقت الذي لم يعرف التاريخ الحديث لحظة اضطهاد واحدة عاشتها تلك الطائفة، ولم يسمع أحدٌ بمجزرة للعلويين تشبه مجازر حماة والمشارقة وجسر الشغور وسواها!
ولكن خطورة السؤال، لا تنتهي ببقائه في ذهن العلويين، بل في تخّيله كواقعٍ طبع الحياة السورية الافتراضية، فما الذي يعنيه وجود الضحايا من العلويين في الماضي كمضطهدين؟! لا يعني اقلّ من وجود جلادين كانوا يمارسون ذلك الاضطهاد والنفي والإقصاء ضد العلويين؟! والقبول بهذا سيعني تماماً اتهام قامات المجتمع السوري ونخبه وعلمائه وبيوته وأسره، بالطائفية، فيتحوّل رجل دفع حياته ثمناً لمواقفه مثل الدكتور عبدالرحمن الشهبندر إلى طائفي!! أو شهيد رمزي جليل مثل يوسف العظمة إلى طائفي!! والجابري والقوتلي وخالد العظم والكواكبي قبلهم والشيخ طاهر الجزائري ورمضان باشا شلاش وسلطان الأطرش...كل هؤلاء سيصبحون وفقاً لنظرية الاضطهاد العلوي، متعصبين مارسوا الطائفية ضد الشعب العلوي البريء!!!
والحقيقة أن هذه الطائفة لم تتعرض، ليس فقط في عصر الدولة السورية إلى الاضطهاد، بل حتى في أحلك الظروف العثمانية التي عاشت فيها الشعوب العربية بمختلف مذاهبها عسف التعصّب الطوراني التركي الذي جرّ الخلافة العثمانية إلى نهايتها، ومن يقرأ في تاريخ العلويين، سيجد أنهم كانوا يشكلون النسبة الأكبر للجيش الانكشاري العثماني، الذي كان سوط العثمانيين، وأداتهم الباطشة في إخضاع العرب في أصقاع السلطنة، ويذكر الاستاذ ابراهيم الداقوقي مدير مركز الدراسات الاكاديمية وتواصل الثقافات ndash; في فيينا (بعد أن تبنّى الجند الانكشاريون ( الجند الجدد ) وهم مشاة القوات المسلحة العثمانية من المرتزقة ومعظمهم من العلويين والتي تأسست في أوجاقاتهم ( منتدياتهم ) البالغ عددها 196 اوجاقا اعتبارا من اواخر القرن السابع عشر، الطريقة البكتاشية أسلوبا في الحياة والمعاملات وبذلك ساهموا في نشرها في كافة أنحاء بلاد الاناضول) وما تعرّض له العلويون النصيريون السوريون، لم يختلف عن أي استبداد آخر تعرّضت له أرياف حماة وحمص ودمشق وحلب والجزيرة السورية وسنجق دير الزور والعراق وحتى بعض بلدان نجد والحجاز.
وفي عقود القرن العشرين، تابعت حياة السوريين طابعها المسالم، دون أن يكون لطائفةٍ من طغيان على أخرى، ومن كان يعيش في بيئة فقيرة ثقافياً بقي فقيراً حضارياً، ومن حاول الخروج للانخراط في المجتمع مثل الطوائف السورية الأخرى كالدروز والإسماعيليين والإيزيديين، تمكّن من القيام بدوره في يوميات السوريين، وبقي العلويون في الجبال الافتراضية رغم أنهم نزلوا منها بحكم التعليم ومشاركة بعض رجالاتهم في الحراك السوري مثل الشيخ سليمان الأحمد ثم الشيخ عبدالرحمن الخيّر، والأغلبية خرجت من عزلتها بفضل نظرية أكرم الحوراني الذي عمل على تطويع العلويين ممن نسّبهم إلى البعث في صفوف الجيش والقوات المسلحة، للوصول إلى السلطة.
ومع أن اساس الفلسفة العلوية النصيرية الاخلاقية - الذي يجب ان يلتزم به العلوي ndash; هو التحكم بيده ولسانه وظهره ( ألينه، ديلينه، بيلينه حاكم أولماق - في اللغة التركية ) أي ان لا يسرق ولا يكذب وان يحافظ على طهره. ولذلك فان الشخص الذي لايحترم الانسان - وهو أقدس المخلوقات - ولا يهتم بالمحافظة على ما في هذه الارض من نبات وجماد وحيوانات خلقها الله، فهو شخص لم يبلغ مرحلة النضج بعد، ولهذا فان عبادته غير مجدية ومثل هؤلاء الاشخاص - غير الناضجين- لا يُقبلون في بيوت الجمع، وينبذون من قبل المجتمع العلوي، لاسيما وأن اساس الإيمان العلوي يستند الى حب الأقانيم الثلاثة ( الحق ( الله) و محمد و علي ) وفي صورة ( الله والانسان والطبيعة ).
وإذ لا وجود لذلك الهولوكوست المتخيّل للعلويين في سوريا، فلا مبرّر لاستمرار ابتزاز المجتمع السوري، بضرورة أخذ الضمانات من كل حراك، بأنه لن يكون طائفياً ولن يمارس الاضطهاد ضد العلويين.
تعيد الثورة للسوريين فرصة التفكير في كل المسلّمات والعناوين الكبرى التي رفعت وتم إسكان الوعي الجماعي فيها وتحت مظلاتها..(ممانعة).. (مقاومة)..(اضهاد الأقليات).. (الحرية)..(العيش المشترك)..(العروبة)... (العدو)...وصولاً إلى مفهوم الدولة وصورتها وشكلها.
- آخر تحديث :
التعليقات