جميلٌ بالطبع أن تبادر الجامعة العربية لحل الأزمة السورية وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، عربياً، عبر قرارٍ أو ورقة عمل هنا، وأخرى هناك، لتفادي دخول سوريا إلى مجهولٍ لا يحمد عقباه. لكنّ quot;جميلquot; العرب، كان هذه المرّة أيضاً، جميلاً غير منصفٍ، لكونه جاء جميلاً في صالح النظام، الذي يقتل شعبه منذ أكثر من ثمانية أشهر، ويمارس ضده شتى صنوف إرهاب الدولة المنظم، أكثر من أن يكون جميلاً لصالح الشعب السوري الأعزل، خصوصاً وأنّ الجامعة طالبت في اجتماعها الأخير الذي انعقد في القاهرة، الأربعاء الماضي، بquot;وقف العنف من كلّ الأطرافquot;، ما يعني خلطاً واضحاً بين الجلاد والضحية، والنظام القاتل، والشعب المكلوم، الذي يُقتل على يده كلّ يوم، وكلّ شارع، وكلّ جامع، وكلّ جامعة، وكلّ مدرسة.

مع ذلك يمكن القول، بأن هذا كان أقصى ما يمكن أن تقدّمه الجامعة العربية، راهناً، لأكثر من سبب وإعتبار، ولأكثر من عامل(عربي وإقليمي)، خصوصاً وأنّها معروفةٌ بكونها جامعةً للدول العربية، قبل أن تكون جامعةً للشعوب العربية.

المبادرةُ على هنّاتها ونواقصها، تبقى في العموم مبادرةً لا بأس بها، إن طُبقت بنودها على الأرض، خلال quot;خمسة عشر يوماًquot;، مثل الوقف الشامل لكلّ أشكال العنف والإفراج عن كافة المعتقلين الذين اعتقلوا على خلفية الأحداث الأخيرة، وإزالة مختلف المظاهر المسلحة من المدن والمناطق السكنية، والسماح بدخول وسائل الإعلام العربية والأجنبية إلى كافة أنحاء سوريا لتغطية الأحداث، للدخول بعد ذلك في حوار وطني بين النظام والمعارضات السورية بكلّ أطيافها في الداخل والخارج.

بغض النظر عن التفاصيل، التي يكمن الشيطان فيها على الدوام، إلا أنّ ما تضمنته المبادرة، تبقى بنوداً أساسية، لا يمكن لأي حوارٍ(بحسب لسان حال المبادرة) أو quot;تفاوضquot;(حسب اصطلاح المعارضة السورية) أن يبدأ بدون تطبيقها على الأرض فعلاً.

لكن السؤال الذي كان مطروحاً، ولا يزال، هو: هل سيترجم النظام السوري أقواله وموافقاته على الورق، إلى أفعال على الأرض، كما وعد عرب الجامعة؟
هل سيلتزم النظام السوري، فعلاً، بتطبيق كلّ ما جاء في بنود الورقة العربية، quot;وفوراًquot;، خلال إسبوعين، للدخول في حوارٍ حقيقي وجدّي، مع كلّ أطراف المعارضة، في داخل سوريا وخارجها؟
هل من الممكن أن يتحوّل النظام الذئب، خلال إسبوعين، إلى quot;حملquot; كما تريد له الجامعة العربية أن يكون؟

النظام السوري أثبت بعد سويعاتٍ، من موافقته على كل ما جاء في المبادرة وبدون شروط، أن ما قاله تحت قبة الجامعة العربية، ووعده به عربها، ليس سوى مجرد لعبٍ بالكلام، وقفزٌ سياسي دونكيشوتي، للهروب إسبوعين آخرين إلى الأمام، علّ وعسى أن quot;يصفيّquot; خلالهما الثورة وأهلها وطواحينها، التي ليست بquot;طواحين هواءquot; على أية حال.

في فقه النظام، لا فرق بين ما قبل المبادرة وما بعدها. لهذا بقي كلّ شيءٍ في سوريا على الأرض، رغم قبوله كلّ شروط الجامعة، على ما كان عليه قبلاً.

كلام الأسد، لم يعد كلاماً في الهواء، بالنسبة لشعبه فحسب، وإنما بالنسبة للعالم أيضاً. لهذا جاء الموقف الأميركي بعد موافقة الجانب السوري على المبادرة العربية سريعاً، ليؤكد من جديد على ضرورة quot;رحيلquot; الأسد وتسليم السلطة إلى الشعب. أمس، تبعته مواقف أخرى أكثر حدةً، جاءت على لسان مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشئون الشرق الأوسط، جيفري فيلتمان، الذي قال خلال مقابلةٍ له مع قناة العربية، بأنّ quot;كلام الأسد لا يعني شيئاًquot;، مشككاً في صدقية الأسد، وجديته في تنفيذ المبادرة العربية، مضيفاً بأنّ العرب quot;سئمواquot; من أفعال الأسد الوحشية، المستعد لفعل كلّ شيء، بما فيه quot;تدميرquot; سوريا، لأجل البقاء في السلطة.
في سياق الموقف الأميركي ذاته، نصحت الخارجية الأميركية السوريين، أمس الجمعة، بأن لا يسّلموا أنفسهم للسلطات السورية، رغم تعهدها بالعفو عمن سماهم بquot;حملة السلاحquot;.

الخارجية الفرنسية أعربت من جهتها، عن تشككها في مصداقية نظام الأسد، بتنفيذ المبادرة العربية.

أما رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، فلم يخفِ هو الآخر، quot;انزعاجهquot; من هذه المبادرة، ولو بشكلٍ مبطن، وذلك بتصعيد لهجته ضد النظام السوري، مرّةً أخرى، بعد موافقة هذا الأخير على المبادرة العربية مباشرة، قائلاً بأنه quot;لا يمكن لهم أن يبقوا مكتوفي الأيدي إزاء ما يحصل في سوريا، لا فتاً إلى عقوبات معينة لا بدّ من اتخاذهاquot;.

كلّ هذه المواقف الدولية والإقليمية، جاءت بعد quot;اتفاقquot; نظام الأسد مع أهل الجامعة العربية، لتؤكد بأنّ لا أمل في هذه المبادرة، لأنها ولدت ميتةً، ليس لأن أهلها غير مؤهلين لهذا الأمل، أو غير مرّحبٌ بهم، وإنما لأن لا أمل، دولياً وإقليمياً، في النظام السوري نفسه، العصيّ على الإصلاح والتغيير، الذي اعتاد طيلة أكثر من أربعة عقودٍ، أن يقول الكثير دون أن يفعل شيئاً، وأن يدمّر كلّ شيء دون أن يبني شيئاً.

النظام السوري وافق على المبادرة العربية، إذن، ليس لأنه يريد بالفعل المشي خلف العرب وجامعتهم، وإنما لأنه يريد اللف والدوران عليهم، كعادته. ربما من هنا نفهم تأكيد رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري، ورئيس اللجنة الوزارية العربية، حمد بن جاسم، على ضرورة قيام النظام السوري بإصلاحات جدية واتخاذ خطوات ملموسة، quot;بدون لف ودورانquot;، حسب قوله.

هو، وافق على المبادرة، لا لتنفيذ بنودها أو الإلتزام بها، كما يثبت القتل المستمر على الأرض(حيث سقط منذ قبوله المبادرة حتى الآن، أكثر من 50 شهيداً، فضلاً عن تسليم المشفى الوطني بحمص لأكثر من مئة جثة من المدنيين، حسب مصادر البي بي سي)، وإنما ليقلب الطاولة، حسب فقهه السياسي، على أكثر من طرف.

ربما سببت موافقة النظام السوري على المبادرة، في البداية، إحراجاً لبعض أطراف المعارضة السورية، لا سيما معارضة الخارج الممثلة بالمجلس الوطني السوري، لكونها جاءت مفاجئة للجميع، حتى بالنسبة لصاحبة المبادرة، الجامعة العربية نفسها. والسبب الأساس في هذا الإحراج، بالنسبة لأهل المجلس الوطني السوري، هو تردده بين مبادرة quot;الحوارquot; التي تبنتها الجامعة العربية، ورفض الثوار لها، ولأيّ شكلٍ من أشكال الحوار مع النظام. هذا التردد والإرباك بدا واضحاً في خطاب كلّ الذين تحدثوا بإسم المجلس لاحقاً، في تعليقاتهم على هذه المبادرة وإبداء موقفهم منها.

هؤلاء، جددوا رفضهم لأيّ حوارٍ مع النظام، لكنهم لم يرفضوا المبادرة العربية القائمة أساساً على الدعوة إلى الحوار، بقدر ما أنهم سجلّوا quot;ملاحظات وتحفظاتquot; عليها. وهو الأمر الذي دفع بالمعارضة الممثلة بالمجلس الوطني، إلى تحديد موقفها لاحقاً، والتعبير عنه بمزيدٍ من الوضوح، فاستعاضت عن مصطلح الحوار الذي هو هدف المبادرة العربية الأساس، المرفوض من جهة الشارع السوري الثائر جملةً وتفصيلاً، بمصطلح quot;التفاوضquot; الذي يعني شيئين: الأول رحيل النظام، والثاني الإتفاق على جدول زمني لتسليم سلس وسلمي للسلطة إلى الشعب، عبر حكومة انتقالية تمثله مؤقتاً، إلى حين إجراء انتخابات ديمقراطية. وهذا ما لن يحصل في زمن هذا النظام أبداً. لأن مبدأ الحوار الجاد والجقيقي مع كلّ المعارضة، هو في أساسه، مبدأ مرفوض جملةً وتفصيلاً، من جهة النظام، فكيف سيقبل بالتفاوض على رأسه.

إصرار النظام السوري على قطع مسافة الخمسة عشر يوماً، بالمراوحة في مكانه، وذلك عبر مزيدٍ من القمع والقتل والإرهاب، وعلى ظهر المزيد من الدبابات، كما شهدنا في اليومين الماضيين. يعني اللاوصول، ومن ثمّ ضياع هدف المبادرة الأساس، ألا وهو الجلوس على طاولة الحوار، وبالتالي سقوطه قبل أن يبدأ.
الإصرار على القتل، يعني الإصرار على اللاحوار.
قطار المبادرة العربية، على الأرجح، لن يصل إلى محطة الحوار المنشود، والنظام السوري سيكون أول من يضع العصي في العجلات. فلكلّ عجلةٍ من شأنها أن تدفع بسوريا إلى الأمام، هناك في جعبة النظام، عصا جاهزة، يؤخرها ليسقطها في المزيد من الوراء.
سيُقسط النظام السوري المبادرة العربية، قبل أن يُسقطها الشعب السوري، كيلا يسقط هو فيها، وسيصيبها في أكثر من مقتلٍ، قبل أن يُصاب هو فيها، فهذا النظام عوّدنا نحن السوريين، منذ عقودٍ طويلةٍ من صناعته الماهرة للقتل وأخوانه، كيف يقتل القتيل ويمشي في جنازته.

هوشنك بروكا

[email protected]