سياحة في البيوت والأكواخ والمدينة الهجينة

إن ملخص ما جرى، في الفترة الزمنية المعنية ـ الأربعينيات ـ هو الآتي: مقابل المشهد غير المعقد الذي كانت فيه المدينة ميدانا لسيادة طبقات ما قبل الدولة، الاقطاعية، زعماء العشائر، السادة، ملّاك الأراضي، الموظفون، الأجراء، ألخ. مقابل هذا المشهد سنجد أنفسنا، ابتداء من الثلاثينيات مرورا بالأزمة الاقتصادية العالمية والاحتلال الثاني للعراق عام 1941، وسط مشهد بانورامي شديد التعقيد؛ النظام العشائري يكاد يتفكك والضباط الشريفيون ورجال الانتلجنسيا يحلّون بدل الموظفين العثمانيين، أولئك الذين ارتبطت بهم تسمية quot;الأفنديةquot;، وكانوا على شاكلة عارف آغا الذي يتفنن رفعت الجاردجي في تعرية بيته وتفكيك ما يحيل إليه من نسق قيمي وثقافي. وما يجب التوقف عنده، بهذا الصدد، أن ذلك النسق الثقافي كان في طريقه للتحلّل والتآكل بفعل تخلخل بنية المدينة بعد حدث النزوح الجنوبي لها.
إن الجادرجي البارع في مثل هذه الإلتقاطات يتوقف في quot;مقام الجلوس في بيت عارف آغاquot; عند مصطلح quot;الأفنديquot; ولكن من زاوية نظر شديدة الذكاء. يقول أن محمود عارف آغا كان ترأس عائلته من دون منازع وكان يلقب بـquot;الأفنديquot; وكان يتمتع بسلطة أبوية مطلقة على أفراد عائلته. كانت أوامره تطاع من دون نقاش أو سؤال ولم يسمح لأولاده حتى بالدراسة أو الزواج أو حق التفرد. (41)
الحال أن مصطلح quot;الأفنديquot; هذا يمكن أن يختصر كثيرا من متغيرات تلك المرحلة الانتقالية التي كللت بثورة 1958 حين اختفت ألقاب quot;الباشاquot; وquot;البيكquot; وquot;الأفنديquot;. ويرى الجادرجي أن استعمال لقبي أفندي والأفندي لرئيس العوائل استمر حتى مطلع العشرينيات quot;فكان استعمال هذا اللقب من قبل عائلة عارف آغا استمرارا لتقليد قائم في السابقquot;. (42)
ولكي نتفهم ما جرى من تغيرات في القيم الثقافية المرتبطة بتراتبية الطبقات الاجتماعية في العراق علينا التوقف عند التفريق المهم بين لقبي quot; الأفنديquot; وquot;أفنديquot; فمع تشكيل الدولة العراقية وظهور طبقة جديدة من كبار الموظفين، كما يقول الجادرجي، اقتبس لقب أفندي من دون ألف ولام التعريف ليطلق على بعض موظفي الدولة الذين اكتسبوا مقاما اجتماعيا مرموقا ولم يرتقوا الى المقامات العليا في الوظيفة.
ويضيف: quot;هنا مصدر المفارقة في استعمال لقب quot;الأفنديquot; وquot;أفنديquot; من قبل موقعين في المجتمع مختلفين في المنزلة فالمنزلة الاولى تميز نفسها باضافة ألف لام التعريف على اللقب فيلقب بالأفندي بدلا من أفندي ويستعمل مصطلح الأفندي حينما يشار اليه كشخص غائب ودون ذكر اسمه أما حينما يخاطب بحضوره فيقال له أفندي من دون ذكر لام التعريفquot;. (43)
ليس هذا حسب فقد quot;أخذ مصطلح أفندي يلقب به التجار من ذوي الدخل الجيد والمتوسط من بين السنّة وأصحاب المهن كالمعلمين مثلا واستمر إلى حد ما استعمال هذه الألقاب خصوصا بيك حتى ثورة 1958 بالرغم من صدور قانون في أوائل الثلاثينيات بإلغائها واستعمال كنيات جديدة تتوافق مع رغبات الطبقة الجديدة من الموظفين التي ظهرت مع تكون الدولة العراقيةquot;. (44)
إن الأمر لا يخرج قيد أنملة عما يقوله الجادرجي، ففي رواية quot;النخلة والجيرانquot; ـ مثلا ـ يسمّي غائب طعمة فرمان أحد أبطاله بـquot;مصطفى أفنديquot; لكن الرمز، هنا، يشير لشريحة من المنفعيين الذين تزخر بهم المدن المتحولة عادة، أعني المدن التي تجد نفسها في خضم اضطراب اقتصادي واجتماعي مزلزل حيث تزول طبقات وتولد أخرى، يغيب جيل ويظهر آخر مختلف. وهو ما جرى في الأربعينيات حين شارف جيل quot;الأفنديةquot; من رؤوساء العوائل الارستقراطية على الاختفاء مقابل ظهور جيل من أفندية جدد هم أما نازحون من مدن أخرى أو خارجون من رحم دولة ما بعد الملك فيصل.
نقصد أولئك الشبان المتعلمين الذين تخرجوا من الكليات في العقد الحاسم، عقد الأربعينات الذي تدور في أجوائه رواية غائب طعمة فرمان وذكريات رفعت الجادرجي عن بيت جده الآفل، ثم أخيرا، تدور حوله المدونة quot;الشعبوية quot; التي سنختم بها هذه السياحة؛ نقصد كتاب quot;مدينة الثورة..دراسات تاريخية معاصرة 1932 ـ 2008 quot; الذي ألفه الحاج كاظم عبد الحاج شنجار البيضاني وهو أحد المهاجرين إلى بغداد في تلك الفترة.

عصر الصريفة يحلّ..وداعا عارف آغا

خلافا لمزاج الأفندية المتمدنين الذي ينضح من مدونة الجادرجي سيحلّ مزاج مختلف تماما في المدونة الجديدة ؛ الفردية التي يعكسها نسق القيم السائدة في بيت عارف آغا ستختفي تماما في نظام الصرائف القادم مع بطل المدونة الجديدة الحاج عبد الحسن شنجار البيضاني الذي يسرد مؤلف الكتاب قصة مجيئه هو وأبناء عمومته لغداد.
لنر كيف يصف المؤلف بدايات الحدث، حدث حلول عصر الصرائف؛ quot; بقي عبد الحسن مع أبناء عمومته الذين أصبح عددهم 15 عائلة يبحثون على مكان سكن لهم ومن خلال بحثهم رأووا ساحة كبيرة تقدر مساحتها 5 كم مربع والتي تقع بالجانب الأيمن من جامع ابن بنية في الوقت الحاضر والواقعة على الشارع العام المحصورة بين الجامع والخط السريع أو مديرية المتنزهات بجانب الخط السريع وقد تم اتفاق الجميع على هذه المساحة الفارغة وخطط كل واحد منهم مساحة قدرها 150 مترا أو أكثر لغرض بناء هذه المساحة المخططة لهمquot;.(45)
الفرق بين النسقين قد لا يحتاج كثير جهد لتبينه. ما على المرء سوى استعادة ما كتبه مؤرخ سردية عارف آغا، أو لنقل واصف صورة بغداد التي ارتبطت بتلك الفئة المتمدنة ليكتشف أن متغيرا جوهريا بدأ يحل. يكتب الجادرجي واصفا الدار التي اشتراها عارف:quot; تقع دار عارف آغا على شارع الرشيد وتمتد بحيث تملأ المسافة بين زقاقين يصبان في ذلك الشارع ويحد الزقاق من الناحية الشمالية المبغى العام أو الأبنية المقترنة به والقريبة منه ويؤدي الزقاق من الناحية الجنوبية إلى محلة اصطلح عليها من قبل بعض الناس فيها أو بقربها في محلة باب أغا على أنها محلة مرموقة ومسكونة من قبل عوائل قديمة وميسورة وأغلب أفراد هذه العوائل كانوا موظفين في الدولة أو مهنيين أو ملاكين quot;.(46)
أجل، كان سكنة quot;باب أغاquot; موظفين مرموقين في الدولة بينما كان بطل المدونة الجديدة فلاحا لا يجيد أي شيء. لنر كيف وجد وظيفته الأولى في العاصمة: quot;..أخذ الشرطي الرسالة من يد عبد الحسن وأدخلها على المدير واستلمها وبعد أن قرأها سمح لعبد الحسن بالدخول واستقبلوه وأذن له بالجلوس بجانبه وقال ـ ماذا تريد أن تعمل وأي شيء تعرف من نوع العمل. قال له عبد الحسن ـ أنا رجل فلاح لا أعرف أي شيء غير الفلاحة. وفي نفس الوقت أرسل المدير على المشرف على العمل أو كنديل أو رئيس الملاحظين من هذه الأسماء التي كانت تطلق عليهم آنذاك وقال له ـ خذ هذا الرجل معك وعلمه كيفية العمل معكم لكونه عائدا ليquot;. (47)
الحال أن تتبع ملامح الصورة الجديدة التي كانت في طريقها للحلول كبديل عن صورة عارف آغا يمكن أن يكون ممتعا جدا فهو لا يتعلق فقط بالمكان والزمان وسياقاتهما الجديدة بل يذهب بك ليضعك وسط دراما اجتماعية لها أبطالها ومهزوموها، شخصياتها الرئيسة وشخصياتها الثانوية. نتحدث تحديدا عن مقابلة مفترضة بين مدونتين تدوران في فترة زمنية واحدة وقد لا يفصل بين مسرحيهما سوى quot;شمرة عصاquot; كما يعبر الريفيون الذين استوطنوا العاصمة. كتاب رفعت الجادرجي يدور في محلة تقع في شارع الرشيد بينما يدور كتاب البيضاني في أمكنة تقع على تخوم المدينة القديمة كالعاصمة والميزرة والشاكرية وخان حجي محسن، ومن ثم مدينة الثورة التي ورثت تلك المستوطنات.
ومع هذا فإنك سترى، في الكتابين، ثقافتين متمايزتين ونسقين من القيم يختلفان عن بعض؛ سترى الفردية في مدونة الجادرجي وقد تجسدت في نسق بناء وطريقة جلوس واختيار للاثاث حيث الموقف من الأثاث كأداة للقعود quot;إنما هو أفعال بدن يحمل هوية لفرد يتفرد بها مع أداة كان المجتمع قد منحها قيمة إجتماعيةquot;. (48 ).
ليس هذا حسب بل إن quot;التشخيصيةquot; التي يفرد لها الجادرجي وقفة جديرة بالتأمل تكون متحققة في بيت عارف آغا الذي عينة على بيوت شريحة بغدادية فاعلة. يقول أن التشخصية هذه تعني quot;تأمين خلوة الفرد وتفرده ومنحها خصوصية لم تتمتع بها في المجتمع التقليديquot;. وكمثال على ذلك يستذكر بدقة متناهية تفرّد كل شخص من أفراد العائلة في غرفة خاصة به خصوصا في quot;حوش حرم الخاتون فأبواب الغرف متشابهة في الشكل واللون ومغلقة دائما وتغطي نوافذها ستائر وبذا تؤمن لأفراد حرم الخاتون متعة الخصوصية quot;. (49 ).
أين هذا مما نلاحظه في مدونة البيضاني حيث الغياب شبه التام للفردية والحضور الطاغي لروح الجماعة، ويتجسد ذلك، لا في نمط بناء الصريفة حسب، بل في تكوين المستوطنة نفسها فهي كانت شكلا من أشكال الأسلاف العشائرية الموجودة في الريف لجهة أن النازحين كانوا عبارة عن عشائر وأفخاذ وعوائل وليسوا أفرادا مستقلين. يقول كاظم البيضاني مثلا عن خان حجي محسن: quot; والذين كانوا يسكنون في الخان أو جوانبه أو حوله فهم عبروا إلى صوب الرصافة في خان الحاج محسن الذي أطلقوا عليه خان السودان لكون سكانه جميعا من عشيرة السودان وقد سكن قسم من عشيرة السواعد في منطقة الكسرة أو الفوازية وهم بيت بدن وبيت صحن وبيت فنجان..quot;.
(50 )
أما كيفية بناء الصريفة نفسها فيكفي أن هذه العبارات لتكتشف أيّ غياب للفردية حمله النازحون معهم، يقول: quot;في بداية الأمر وقبل كل شيء قاموا بحفر آبار داخل المساحة المخططة لهم لكي يحصلوا على الماء لبناء دور لهم وفعلا تم ذلك المطلب وبدأ كل واحد منهم بالبناء بدون هندسة وعلى الشكل التالي ؛ بناء جدران أربعة أثنان متساوية الأضلاع والارتفاع مترا ونصف المتر وإثنان على شكل قوس يكون ارتفاعه مترين ثم يوضع على هذه الجدران المقوسة خشبة على طول الأقواس يسمّى مثل هذاالنوع من الخشب ـ فوق ـ معتدل الشكل يطلق عليه ها الأسم أو ـ مردي ـ يكون سمكه 25 إلى 30 سم ثم يوضع السعف المنظف طرفا على الجدران والطرف الآخر على المردي الممتد على طول مسافة البيت ويثبت كل طرف الأول على جدار الطين بواسطة طين والطرف الثاني يثبت على الخشب الملفوف المنصوب على جدران مقوسة quot;. (51 )
هذا كل شيء.
لقد بنيت الصريفة في بغداد في الوقت نفسه الذي نعى فيه الجاردجي بيت عارف آغا محاولا تدوين فلسفة ذلك البيت وهي فلسفة تشير لطبقة اجتماعية ونسق من القيم الثقافية التي زالت مع مجيء الطبقات الشعبوية وانتصارها في بغداد.

********

41 ـ ينظر quot; مقام الجلوس في بيت عارف آغاquot; لرفعت الجادرجي ـ دار رياض الريس ـ لندن ـ الطبعة الأولى 2001 ص 28
42 ـ المصدر نفسه ص29
43 ـ المصدر نفسه ص 29
44 ـ المصدر نفسه ص30
45 ـ ينظر quot; مدينة الثورة / الصدر حاليا..دراسات تاريخية معاصرة..1932 ـ 2008. تاليف الحاج كاظم عبد الحاج شنجار البيضاني ـ الطبعة الأولى ـ بغداد 2008 ص 23
46 ـ ينظر quot;مقام الجلوس في بيت الآغا quot; ص 23
47 ـ ينظر quot;مدينة الثورة..quot; ص 115
48 ـ ينظر quot;مقام الجلوس..quot; ـ ص16.
49 ـ ينظر quot; مقام الجلوس..quot; ـ ص 93.
50 ـ المصدر نفسه ص 119
51 ـ ينظر quot; مدينة الثورة..quot; ص 117