كثيرون ممن يقرأون السياسة بالأخلاق ويحكمون على مواقف الدول في لعبة العلاقات الدولية، بثنائية الخير/ الشر، ينظرون إلى مواقف روسيا من ثورات الربيع العربي، بعينٍ فيه الكثير من quot;العتاب البروليتاريquot;، والإستغراب والدهشة وخيبة الأمل والإنكسار، ناهيك عن الشك والريبة.

هؤلاء لا ينظرون إلى روسيا كدولة عظمى، وسواها من الدول الدائرة في فلك مواقفها، بإعتبارها دولاً تتعاطى مع دول، لها مصالحها وخططها واستراتيجياتها، بقدر ما أنهم ينظرون إليها وكأنها quot;حامياتquot; أو quot;أمهات بروتاليتارياتquot; لحقوق الإنسان، أو quot;جمعيات خيريةquot; لمساعدة المظلومين والمحتاجين وأبناء السبيل والثائرين.

لهذا تراهم لا يتوانون عن تعبيرهم بلهجةٍ لا تخلو من quot;الإسترحامquot; عن سخطهم حيناً، وأسفهم أحياناً أخرى، عما تقوم به دول كبيرة، مثل روسيا والصين، من قفزٍ سياسيٍّ فوق حقوق الإنسان، وإنحيازٍ واضح أو quot;فاضحquot; لأنظمةٍ ديكتاتورية قمعية دموية، اتخذت ولا تزال من القتل والعنف والإرهاب المنظّم، سبيلاً وحيداً لتأديب وكسر شوكة شعوبها، لأجل المزيد من البقاء في السلطة، والمزيد من الهروب إلى الأمام، لإطالة عمرها، غصباً عن الذي يريد أو لا يريد.

الحالة السورية في هذا المنحى ليست استثناءً. ففي الوقت الذي كان ولا يزال هناك من يستغرب، ويتعجب، من وقوف روسيا الرسمية، علناً، إلى جانب أهل النظام ضد أهل الثورة السورية، وجدنا ولا نزال نجد آخرين، لا سيما من الخاصة من أهل المعارضة السورية ممّن يستهزأ ويسخر من هذا الموقف ويستصغره ويستهجنه لا بل يحتقره، معتبراً إياه quot;خاطئاًquot; أو quot;لاعقلانياًquot; أو quot;متخلفاًquot; عن مصالح الشعب الروسي قبل السوري، إيماناً منهم بأنّ المستقبل هو للشعوب ولصعود ثوراتها ضد ديكتاتورياتها، كما أثبتت الأشهر الإحدى عشر الماضية من تاريخها الدموي، والتي سقطت فيها ثلاث من أسوأ الديكتاتوريات في المنطقة، ولا يزال حبل السقوط في جهات أخرى، مثل سوريا واليمن على الجرار.

لا شكّ أنّ سقوط النظام السوري آتٍ، وربما هو دخل الآن، بعد دخول الجامعة العربية وتركيا على خط الغرب الأوروبي والأميركي للضغط عليه، في بداية نهايته المحتمة والأكيدة. كلّ الوقائع على الأرض، في الداخل السوري وخارجه، تؤكد تطور الأزمة السورية نحو هذا المنحى، أي صعود الشعب السوري وثورته مقابل هبوط النظام المقبل على سقوطٍ مدوّي، لن يكون أقل مأساويةً ودموية وعنفاً، من سقوط نظام العقيد معمّر القذافي.

بعد تعليق الجامعة العربية لعضوية سوريا، وفرضها مؤخراً عقوبات إقتصادية وتجارية عليها، شملت منع مسؤولين سوريين من السفر إلى الدول العربية، وذلك بمباركة وموافقة تركية وبتشجيع ديبلوماسي وسياسي موازٍ من أميركا وأوروبا، وثم إعلانها على لسان أكثر من مسؤول عربي، بأنها ستقبل على فرض المزيد من العقوبات الإقتصادية والسياسية والديبلوماسية على النظام السوري، إذا لم يستجب هذا الأخير لمطالب شعبه والجامعة العربية والمجتمع الدولي، بعد كلّ هذه التطورات التي سارت في غير صالح النظام، وأوقعته في المزيد من العزلة العربية والإقليمية والدولية، يمكن القول بأن خيارات الأسد ونظامه، أياً كانت وجهتها، لن تنتهي بهما، إلى أقل من السقوط، أو الهروب في أحسن الأحوال.

ليس أمام الأسد إذن إلا أن يسقط أو يُسقط: فإما أن يسقط هو نفسه بنفسه، ويتنحى ويترك سوريا وشعبها والثورة بسلام ويمشي، هذا إن كان قد بقي هناك، من طريقٍ يمشي فيه إلى نهايةٍ غير حزينةٍ أصلاً، أو يُسقط بالشعب وثورته، هارباً إلى أكثر من سقوطٍ حزينٍ منتظر.

مصير الأسد ونظامه، كما نقرأ تصريحاته واستكباراته، ليس على شعبه فحسب وإنما على العالم أجمع، يتجه على ما يبدو نحو المنحى الثاني، أيّ السقوط quot;اللاحرquot;، ويمكن قراءة ذلك من تعويله المستمرّ، على quot;قوتهquot; الكامنة في قوة أوراقه التي يملكها ويستطيع اللعب بها على أكثر من جبهة ومسار.

كلّ تصريحات الأسد وخطاباته، من أولها إلى آخرها، والتي توجّه بها إلى سوريا والعالم من حولها، تؤكد إصراره وعناده على ركوب الخيار الأمني في حلّ الأزمة السورية كحل أوحد، واستعداده للمواجهة العسكرية ضد ما يسميه بquot;المخطط الدولي المستهدف لسورياquot;، إن تطلّب الأمر.

هو، لا يكتفِ بquot;حقهquot; في الدفاع عن النفس أو quot;الوطنquot; كما هو مختزلٌ في نظامه فحسب، وإنما هو يهدد العالم أيضاً، بquot;الزلزالquot; الكبير، الذي سيدخل المنطقة برمتها في فوضى عارمة وكبيرة، لن ينجو منها أحد، حسب مقابلةٍ له مع صحيفة الquot;ديلي تلغرافquot; اللندنية، والتي شبه سوريا فيها بquot;الفالق الزلزاليquot; محذّراً العالم من أيّ مسٍّ أو لعبٍ به، لأن النتيجة ستكون دخول العالم في quot;حريقٍquot; لن يُحمد عقباه، حسب وعيده.

الأسد ليس وحيداً بالطبع في مواجهته المحتملة جداً مع شعبه والعالم من حوله. لديه أكثر من جيبٍ في أكثر من دولة مجاورة، فضلاً عن وجود أكثر من دولة عربية(مثل العراق ولبنان وربما الجزائر إلى حدٍّ ما) تخطط وتتعاون معه على أكثر من مستوى، إضافة إلى تحالفه الإستراتيجي مع إيران التي لن تترك quot;الهلال الشيعيquot; أن ينهار ويسقط أمام عينيها في مجهول quot;القمر السنيquot;، هذا فضلاً عن علاقات نظامه المتميزة والقوية، مع دول عظمى أعضاء دائمين في مجلس الأمن مثل روسيا والصين، وأخرى أعضاء مؤقتين مثل البرازيل والهند وجنوب إفريقيا.

الأسد إذ يعوّل على قوة نظامه quot;المزلزِلquot;، إنما يعوّل بالدرجة الأساس على كلّ هذه الأوراق الخارجية القوية التي لا يزال يمتلكها، دولياً أو إقليمياً، قبل تعويله على quot;قوتهquot; في الداخل السوري، التي هي كقوة أيّ ديكتاتور يمثّل بالشعب وعليه، أكثر من أن يمثله.

ربما يكون الأسد محقّاً، أو حتى واقعياً، في بعض تعويله على قدرته في خلق البلابل وإحداث quot;بعض فوضىquot; في المنطقة لبعض زمنٍ، وذلك عبر ترسانته العسكرية، وجيوبه المسلحة المنتشرة هنا وهناك. هذا السيناريو الذي فيه أكثر من خطر، وراد ومتوقع جداً، فهو إن وقع لن يمرّ على السوريين وجيرانهم مروراً كريماً، وربما لن يخرجوا من أتونه بأقل من حربٍ أهلية.

لكن وهم الأسد الأكبر، يكمن في تعويله الكبير على الموقف الروسي البراغماتي جداً، اعتقاداً منه بأنه سيبقى إلى أن يشاء حكمه، موقفاً quot;ثابتاًquot; معه، ضد quot;أعدائهquot; من الشعب السوري.

في آخر مؤتمرٍ صحفيٍّ له، ذكّر وزير الخارجية السوري وليد المعلّم العالم مرّة أخرى بالموقف الروسي quot;المبدئيquot; وquot;الثابتquot; تجاه بلاده، شاكراً أصحابه شكراً كثيراً، وكأنه موقفٌ quot;أبديquot; سيلازم النظام المأزوم ورأسه الأسد إلى الأبد.

روسيا بدورها زادت في الأيام الأخيرة من حدة تصريحاتها quot;المضادةquot; تجاه ما سمتها بسياسة quot;الإنذاراتquot; التي تستخدمها أوروبا وأميركا والجامعة العربية وتركيا، تجاه الأزمة السورية. وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أكد في تصريحٍ له قبل يومين، أنّ بلاده لا تزال تبحث عن quot;حلول وسط منسقة لتذليل الأزمة السورية بدون إنذاراتquot;.

عسكرياً أكدت مصادر هيئة الأركان الروسية العامة لوكالة quot;إيتارـ تاسquot; الثلاثاء، أنّ quot;مجموعة من سفن الإسطول الشمالي الروسي ستدخل مياه سوريا الإقليمية نهاية ديسمبر/ كانون الأول، وأفاد المصدر نفسه بأنّ quot;مجموعة من السفن ستقوم بزيارة الموانئ السوريةquot;.

رغم تأكيد هيئة الأركان الروسية على أنّ quot;زيارة سفنها للموانئ السورية، كان قد خطط لها مسبقاً ولا علاقة لها بالأحداث الجارية في سورياquot;، إلا أنّ البعض فسّر هذه الخطوة الروسية بquot;الإستفزازيةquot;، في كونها رسالة quot;تحذيريةquot; إلى الحلف الأطلسي وشركائه في المنطقة ممن يخططون لضرب سوريا، بأنّ روسيا لن تترك حليفتها الإستراتيجية سوريا تذهب إلى نهايتها الحزينة وحيدةً.

لا شكّ أنّ لهذه الخطوة الروسية علاقةٌ مباشرة بما يحدث الآن في سوريا، ما يعني أنها خطوةٌ ليست بريئة، تريد روسيا أن تقول للعالم من خلالها، بأنها لا تزال تقف مع دمشق، وتدعمها، ولا تقبل بفرض أيّ عقوبات في مجلس الأمن ضدها، خصوصاً تلك التي تتضمن تحريم تصدير الأسلحة إليها، كما جاء على لسان وزير خارجيتها.

دفاع روسيا quot;المبدئيquot; عن سوريا، هو بدون أدنى شكّ، دفاعٌ عن مصالحها المبدئية، بإعتبارها أحد أكبر وأهم حلفاءها في المنطقة. ولكنّ ذلك لا يعني أبداً، بأنها ستستمّر quot;واثقة الخطىquot; على هذا quot;المبدأ الثابتquot;، في دفاعها عن سوريا ونظامها الذي بات قاب قوسين أو أدنى من السقوط في أكثر من لاشرعية.

اتبعت روسيا لدى تعاطيها مع كلّ ثورات الربيع العربي في الأشهر الإحدى عشر الماضية، سياسة quot;الإعتدالquot; وquot;الترويّquot; المحسوبة جيداً، وفقاً لمبدأ لينين وشعاره المرحلي المعروف بquot;خطوتين إلى الأمام وخطوة إلى الوراءquot;. هي تعاطت إذن، مع جديد الربيع العربي، بمواقف براغماتية متبدّلة متغيّرة، احتكمت فيه على الدوام، لميزان الربح والخسارة.
تغيّرت مواقفها كثيراً، لكنّ مصالحها بقيت ثابتة.
تغيّر كلامها الكثير في السياسة، مشرقاً ومغرباً، لكنّ فعلها فيها ظلّ ثابتاً.

روسيا، لن تبقى ثابتة على موقفها الراهن من نظام الأسد، تماماً مثلما ركبت الموقف المتحرك ذاته، مع أنظمة أخرى أطاحت بها ثورات الربيع العربي، وعلى رأسها نظام القذافي.
هكذا كانت روسيا متبدلة، متحولة، ومتقلبة مع quot;ليبيا القذافيquot; ضد ليبيا الثورة، وهكذا ستكون مع quot;سوريا الأسدquot; وسوريا الثورة.

روسيا لن تضحي في النهاية، بداخلها(الذي لن يسكت الرأي العام فيه إلى الأبد على جرائم النظام السوري) لأجل خارجها، لا في سوريا ولا في أية جهة أخرى من العالم، لا سيما وأنها مقبلة على انتخابات مجلس الدوما التي باتت على الأبواب.

روسيا تعرف الآن جيداً، من أن أين تؤكل كتف النظام السوري، تماماً مثلما تعرف أميركا وأوروبا والجامعة العربية وتركيا من أين يجب أن تؤكل كتف الثورة السورية.

روسيا إذ تقف الآن مع الأسد ونظامه quot;موقفاً مبدئياًquot;، إنما هي تمارس سياسة مبدئية مع نفسها، لضمان مصالحها مع أحد أكبر حلفائها الإستراتيجيين في المنطقة. فأمن مصالحها هو من أمن هذا النظام، وبقاؤها هو من بقائه. لكنّ براغماتية روسيا في تعاطيها مع الأزمة السورية، لن تذهب بها أبعد أو أكثر مما ذهبت إليه مع ليبيا.

هي لن تكون على أية حال، في سوريا، quot;بعثيةًquot; أكثر من الأسد، ولا عربيةً أكثر من الجامعة العربية.
روسيا ستختار نفسها مع العالم في النهاية، وستترك الأسد يذهب إلى نهايته بدون عالم.
هي، ستذهب كما تقول براغماتيتها إلى همّها في العالم، وتترك الأسد لوهمه الخارج على كلّ العالم.
هي، ستنحاز لأهلها كبعضٍ من هذا العالم، وتترك الأسد يسقط تحت غضب أهله، من العالم إلى العالم.

[email protected]