يمثل يوم 17 ديسمبر الحالي ذكرى شرارة الانتفاضة التي أسقطت النظام التونسي و أنظمة عربية أخرى، و التي من المهم فهم الأسباب التي أشعلت فتيلها، في ذلك اليوم بالذات.
لم يثر البوعزيزي في ذلك اليوم على البطالة لأنه لم يعرفها منذ أن بلغ العشر سنوات، حيث اضطر للانقطاع عن الدراسة لكسب قوته اليومي كبائع متجول للخضر و الفواكه. كما الأرجح انه لم يثر على الفقر لان عربته كانت تدر عليه ما يكفي من الرزق، بدليل انه كان يوفر على نفسه بعض المال على أمل شراء سيارة لشحن البضائع تمكنه من الارتقاء إلى الأفضل في سلم المهنة.
تتمثل المشكلة الحقيقية التي اضطرت البوعزيزي لإضرام النار في نفسه في العراقيل الإدارية التي حرمته من الحصول على الترخيص اللازم لمزاولة مهنته، مقابل دفع الضريبة التي يقرها القانون في تلك الحالة. لذلك بقي وضعه المهني هشا، و لم يمنع من دفع الضريبة غير القانونية التي كان موظفو الدولة ينتزعونها منه عنوة في شكل رشاوى، و هذه أم المشاكل كما تبين أبحاث عالم الاجتماع هيرناندو دي سوتو (Hernando de Soto) مدير معهد الحرية و الديمقراطية بليما ndash; البيرو.
في دراسة جديدة، قدر هيرناندو دي سوتو البضاعة التي حجزتها موظفة بلدية سيدي بوزيد من محمد البوعزيزي يوم 17 ديسمبر الماضي بحوالي 225 دولار أمريكي ( صندوق أجاص: 15 دولار، صندوق موز: 9 دولار، صندوقي تفاح: 22 دولار و ميزان يعمل بطريقة الكترونية يقدر بــ 179 دولار). لا يعني هذا أن محمد البوعزيزي كان يقدر حياته بأقل من 225 دولار، لكن الشاب المفعم بالأمل رأى في خسارته ذلك اليوم نهايته الفعلية كرجل إعمال. و ما كان الملايين من العرب ليسيروا على دربه بعد ذلك التاريخ لولا أنهم رأوا فيه مثلهم الملهم في وطن عربي يقطع الأمل على المواطن الطموح و يحكم عليه بالعيش في عزلة الاقتصاد الموازي خارج حماية القانون، حيث يمثل هذا القطاع أكثر من 40% في تونس و في معظم الدول العربية الأخرى (انظر مقال الكاتب المنشور بتاريخ 2 نوفمبر 2011 في quot;الفاينانشيال تايمز، و هو بعنوان quot;سر اقتصاد السوق في الثورات العربية).
لعل ما حدث في مصر في هذا المجال لا يختلف كثيرا عما حدث في تونس خلال العقود الأخيرة. يقول هيرنادو دي سوتو في مقال بعنوان quot;ابارتايد مصر الاقتصاديquot; نشره في quot;الوول ستريتquot; اثر سقوط الرئيس مبارك أن 90% من الممتلكات في مصر ليس لها شهادة ملكية، بحيث لا يمكن لأصحابها الاقتراض من البنوك مقابل رهنها، مما حولها إلى ما اسماه quot;رأسمال ميت،quot; و نتيجة لذلك بقيت مصر تدور في دائرة الفقر و الفاقة، حتى انفجرت الأوضاع و سقط لنظام. و هنا يتحدث السيد دي سوتو عن دراية، حيث قاد بنفسه فريقا من 120 باحث لاكتشاف حقيقة القطاع غير المنظم في مصر، و اعد تقريرا من ألف صفحة يحتوي على خطة عمل من 20 نقطة تم تقديمها إلى رئاسة الوزراء في سنة 2004، التي اعتمدته أول الأمر ثم تناسته بعد ذلك اثر خروج وزير المالية مدحت حسنين.
بطبيعة الحال ما كان الاقتصاد غير المنظم ليعرف التغول المشار إليه أعلاه لولا رعاية و تشجيع المسئولين و كبار موظفي الحكومة، باعتباره مصدر رزق إضافي لهم من خلال الرشاوى التي يتيحها لهم. لذلك توجب على الحكومات العربية المنتخبة حديثا إعطاء هذا الملف الأولوية التي يستحقها، بمراجعة دراسات هيرناندو دي سوتو في هذا الشأن، و البدء الفوري في تنفيذ خطة عمل تستلهم تجربة البيرو التي نجحت في دمج الاقتصاد الموازي في اقتصادها المنظم، خلال أشهر قليلة، و حققت فوائد كبيرة نتيجة ذلك.

[email protected]