أعتبر نفسي يسارياً ليبرالياً. وبناءً عليه، يؤلمني موقف بعض اليساريين العرب من أحداث quot;الربيع العربيquot; باعتباره خريفاً، وابنَ مؤامرات إمبريالية ورجعية، سنأكل أصابعنا ندماً، لأننا أيّدناها، ووقفنا في صفّها، دون تروٍ ودون حساب. فالإخوان قادمون والسلفيون قادمون، ولن يكون لنا من منجى ولا صديق إلاّ الضيق، والبكاء على طغاة، جاء من هو أطغى منهم، وأنكى!
منطق أيدولوجي، أقلّ ما يوصف به هو فقدان البوصلة وحاسة التاريخ. فلا مقارنة بين من يأتي بانتخابات ويذهب بانتخابات، ومن يأتي على ظهر دبابة أو بالتوريث، ويبقى حتى يأتيه ملك الموت.
إنّ تداول السلطة والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، هو أهم منجز لهذا الربيع، الذي نصرّ على وصفه بالربيع، مهما كانت النتائج.
سيحكم الإخوان؟ فليكن. بشرط أن يلتزموا بأصول اللعبة الديموقراطية. فإذا أرادهم الشعب لفترة ثانية، صحتين. وإذا أراد استبدالهم بغيرهم، فصحتين أيضاً. بهذا ثمة أمل بالخروج من حالة الاستنقاع والفوات التاريخي، التي عانينا منها طويلاً، بتأبيد حكام مجرمين، لم يكونوا في حقيقتهم غير عصابة، أخّرت وجودنا وفعاليتنا في التاريخ، دون أن تكون لا علمانية ولا قومية ولا وطنية ولا أي شيء آخر سوى حكم العائلة والعائلة فقط لا غير.
أما مسألة المؤامرات الإمبريالية، فنسأل مندهشين: وهل كان مبارك والقذافي وبن علي ثوريين اشتراكيين يا إخوة ويا رفاق؟ ألم يكونوا حذاء في قدم أمريكا؟ وسماسرة صغاراً لدى الشركات الأخطبوطية الغربية؟ متى كان هؤلاء حقاً سراة في درب غير درب الغرب؟
تخوّفوننا بعمالة القادمين للغرب؟ ولمَ تحكمون عليهم من الآن قبل أن تجرّبوهم؟ فليأت الإخوان أو سواهم ولنجرّب. لتجرّب شعوبنا وبعدها لكل حادث حديث! ألا تثقون بهذه الشعوب؟ يبدو بالفعل أنكم لا تثقون بها. ويبدو بالفعل أنكم ما زلتم تصدرون عن موقف متعال ونظر فوقي، هو قاتلكم في نهاية المطاف.
ليأت الشيطان نفسه وليحكم ثم يذهب، أفضل من شيطان يحكم ويقعد على أنفاسنا للأبد، هو وأبناؤه. وكأنها شركة خاصة ومزرعة خاصة للأب والابن والحفيد القُدُس!
ثم ما هذا أيها اليساريون الطفوليون: هل تؤمنون حقاً بشعارات دولة العائلة؟ أليس من الأولى أن تنظروا للشعوب، فهي الأنقى والأبقى؟ أليس نقصاً في إنسانيتكم ألا تحسون بها وببلائها وبليلها الطويل تحت من يحكم ولا يرحم؟ تحت حكم من يحكم وكأنه إله، فيعيق بذلك مسار ومسيرة التاريخ، بإخراجنا مثقفين وشعوباً منه، كما هو الحال الحاصل منذ خمسين سنة؟ ألا يهمّكم أن تسيروا مع التاريخ لا ضده؟
لو جاء الشيطان نفسه، لما استطاع في هذه اللحظة الفارقة إلا أن يقف مع الشعوب العربية ضد حكامها المستبدين. فكيف تدافعون عن طغاة ولغوا في دم شعوبهم وأنتم يساريون؟ وكيف تقفون ضد حركة التاريخ وأنتم يساريون؟ وأي يسار هو هذا العَوَار؟
خوفاً ورعباً من البديل الأسوأ؟ ليأت البديل الأسوأ، فلن يمكث أكثر من دورة انتخابية أو اثنتين، ويذهب بعدها إلى حال سبيله، فلا تستعجلوا ولا تحرقوا المراحل. وثقوا بشعوبكم، فهي ليست بلهاء للأبد. ستجرّب وستعرف. وحينها لن يصحّ إلا الصحيح. الصحيح الذي صحّ على أمم وشعوب سبقتنا وجرّبت وتعلّمت من أخطائها وخطاياها. ليس أمامنا إلا هذا الخيار. والمهم والأهم هو إيماننا جميعاً بتداول السلطة عن طريق صندوق الانتخابات، فهو الحَكم والفيصل. وهو ثمرة هذا الربيع الكبرى. والمدخل الوحيد لأن نعود ونصير فاعلين في التاريخ البشري، بعد أن أخرجنا منه طغاة ومستبدّون، لا هم علمانيون ولا مدنيون ولا دينيون ولا بطيخ أصفر.
لقد كانوا مسخاً بلا توصيف. أشتاتاً من كل شيء وأي شيء. ولقد دفعت شعوبنا الثمن الأبهظ، حين استنامت لهذا المسخ.
وحين جاءت لحظة الحقيقة، صارت هذه الشعوب جرذاناً ومتآمرين في نظر حاكميها. فهل شهد التاريخ البشري كله شعباً وشعوباً بأكملها تتآمر على نفسها ومستقبل أولادها؟ يا للمنطق المضروب!

يبدو أنّ يساريّينا هؤلاء وأولئك فقدوا الحس السليم والمنطق السليم، فصدّقوا أنّ الأسد حاكم وطني علماني أفضل ممن سيأتي بعده.

من ناحيتي، أقول لهم: لا أسف عليكم وقد وقفتم بجوار الطغاة. لا أسف عليكم وقد عدتم لديدنكم القديم : نظرية المؤامرة!
وحتى لو، فأنا ببساطة مع الشعوب حين تتآمر على حكام أفراد طغاة. لأنني ببساطة أبسط، أكون حينها مع التاريخ وليس ضده.
الأسد والقذافي وبن علي ومبارك وطنيون وعلمانيون؟ فمبروك عليكم إذاً هذه البضاعة. أما أنا فمع الشعوب التي ظُلمت وغُيّبت وتبهدلت وذاقت الأهوال، وضاق عليها حتى بصيص الأمل، حتى أوشك الأمل نفسه يكون حديث خرافة وحديث كتب لا واقع، لولا ( التراكم الكمّي الذي يفضي إلى تغيّر نوعي كيفي (.. أليست هذه واحدة من مقولات ماركس الكبرى، أم أنكم نسيتم ماركس الفيلسوف واستمسكتم فقط بأناجيل ستالين وبول بوت وكيم إيل سونغ وسواهم من الإرهابيين الدمويين؟ ألا تنطبق هذه المقولة على ما جرى ويجري من أحداث؟ وحتى لو لم تنطبق، فعلى ربيعنا العربي بعد تمامه أن يوجد تنظيراته وتكييفاته، من داخل رحمه هو، إن لم يجد الأفكار والرؤى المناسبة له في الخارج.

أيها اليساريون العرب المريدون المؤيدون للطاغية بشار، لقد فقدتم إنسانيتكم وحسكم وحدسكم التاريخي، فوا أسفاه، على يساري ماركسي لا يجيد قراءة هذه اللحظة، لا بالثقافة والمعرفة، ولا بالإحساس الطبيعي الفطري.
فوا أسفاه عليكم، للمرة الثانية والثالثة والأخيرة.
ما كنا نتمنى لكم هذا المآل!