لا حاجة للغوص في الكتب كي يعرف الواحد من أيّ طينةٍ يتشكّل الطغاة. ورغم أنّي قرأت القليل عنهم، قبل كتابة هذا المقال، إلا أنّي عدت وقلت: علام التّعب؟ والواقع من حولي، فيه الطازة والساخن، على نحو لا توفّره كتبُ التاريخ. فها نحن نشهد مصائر ثلاث طغاة وقد زالوا: واحد أخذها من قصيرها وفَكَحْ، فأراح واستراح. والثاني تيّسَ، فأصرّ على الموت في quot;ترابه الوطنيquot;، فدخل quot;القفص الوطنيquot; وتماوت وما برحَ يتماوت بين قضبانه. أمّا الثالث، فظلّ مقطوعاً عن الواقع، حتى وقعَ فقطعوا خبره من كل الدنيا.
والآن .. هاهو رابعهم، كما يبدو، يسير في ركاب الثالث. لا عبرة ولا عظة. لا فهم ولا إحساس. لا مستشارين ولا نصائح. بل تناحة وتناحة فقط. أي المشي على الطريق ذاتها، التي مشاها أغلب الطغاة من قبله: من نيرون روما، إلى فوهرر برلين، حتى قذافي طرابلس. والحقّ أنّ ذلك يدهشني، وسيظلّ يدهشني، كمواطن بسيط يحرص على حياته وحياة المحيطين به: فهل غريزة التّسلّط قويّة إلى هذه الدّرجة، بحيث تقتل شعبها وتقتل صاحبها في الأخير؟
قديماً قال أجدادنا: الزائد أخو الناقص. وقال حكماؤنا: إذا زاد الشيء عن حدّه انقلب إلى ضدّه.
ومع هذا، يبدو أنّ طبيب العيون الأعمى، الساكن في قصر قاسيون، لا يسمع ولا يقرأ ولا يرى غير ما يريده هو كولد مدلّل: البقاء في السلطة مثل أبيه quot;حتى الأبدquot; [أي إلى أربعين خمسين سنة جايّه، زيادة على الأربعين سنة الفايته، وعليكم خير]
فمن أيّ طينةٍ هذا الأسد؟ هذا المرء؟ هذا الشيء؟ هذا الكائن؟ هذا الموجود؟
نعرف أنّ غريزة السلطة أقوى من غريزة الطعام والجنس عند الإنسان الشرقي. لكننا نفترض أنّ غريزة البقاء أقوى من كل الغرائز، عند الإنسان مطلق إنسان [على الأقلّ هكذا تقول لنا الكتب]. فكيف نفسّر نفسيّاً لا سياسيّاً تناحة بشار؟
من ناحيتي، ليس عندي الكثير لأقوله في مقامٍ كهذا. فقط هما كلمتان، أهرب بهما من حيرتي، وأنا متأكد من صحّتهما: إنّ طينة الرجل غير طينتنا يا إخوان!
هكذا تكون أسهل الإجابات هي أعمقها أحياناً!
فلو كان الأسد مثلنا، لما أصرّ على الغباء والمراوغة والمزيد من الولوغ في الدمّ، كل يوم. كان أخذ حاله وماله واتّكل. ولكنه ليس مثلنا نحن البشر العاديين. لذا فهو لا يتّكل، ولن يتّكل، قبل أن يُخرّبها ويقعد على تلّها.
إنه من طينة أخرى.. كأن تكون حجراً أو صخراً أو قالب ثلج لا يذوب أو حتى غراء متماسكاً مثلاً. غراء ما إن يلامس شيئاً حتى يلصق به للأبد. ولذا نراه يعصمص على الحكم، كأنّ الحكم بالنسبة إليه مسألة حياة أو موت، أو مسألة حق إلهي. [إلهي ياخذ خبره]
ولهذا فالرجل ما يزال يحلم بحل معقول، يُنهي quot;الأزمةquot;، ويعود بعدها كلٌّ إلى داره: هو لقصر قاسيون، وشعبه لبيوتهم. ويا دار ما دخلك شرّ!
ولكنّ الدار دخلها شرٌّ، وأيّ شرّ؟ وسيدخلها شرّ وأيّ شرّ؟
ومع هذا معلش. فالمعادلة عند بشار هيك: إما أنا وإما سوريا خاربة.
ذلك أنه من طينة غير طينتنا نحن. من طينة غير طينة البشر الأسوياء.
وعليه: لا أمل بحلّ قريب، قليل الكلفة في سوريا.
عليه: فالسيناريو الليبي، هو المرشّح الأوفر حظاً، في قادم الشهور، على الأرجح.
أللهم إلا إذا وجد الأسد من أفراد عائلته وبطانته، من يفتح عيونه، في ربع الساعة الأخيرة، ويعيده إلى جادة الصواب.
وquot;جادة الصوابquot; هذه صعبة أو حتى مستحيلة في سياقنا. إذ ليس لها في الحقيقة سوى معنى وحيد: إخراج الرجل من وهم أنه نصف إله ورث عن والده بلداً وشعباً، وردّه إلى بشريّته الأولى وحقيقته الأولى: مجرّد حاكم عابر لبلد سرمدي باق اسمه سوريا، لا يريد شعبه في غالبيته العظمى أن يحكمه هذا الحاكم يوماً واحداً أكثر.
وهو أمر نشكّ فيه، ومرجع شكّنا أن طينة الأسد الابن، من طينة أبيه. باختصار، طينة غير طينتنا
نحن البشر الفانين. أما ما هي هذه الطينة بالضبط؟ فلا أحد يعرف على نحو اليقين والتعيين. لا الواقع من حولنا، ولا الكتب أيضاً. ذلك أنّ فرويد مات. ولاكان مات. ويونغ مات. وأريك فروم مات. وحتى لو كانوا أحياء بعدُ، فأراهن أنهم كانوا سيحتارون في توصيف وتحديد طينة هذا الطاغوت.
أللعنة على شرقنا الزنيم، كم تخصّص في صنع الطغاة!
التعليقات