بعد التظاهرات التونسية التي أطاحت بالرئيس زين العابدين وحزبه الحاكم، والتظاهرات المصرية المستمرة التي قربت نظام الرئيس حسني مبارك من نهايته،يتساءل الكثير من السوريين ومن غير السوريين: هل ستنتقل عدوى الاحتجاجات الشعبية الى سوريا ويخرج السوريون في يوم غضب الى الشوارع للتظاهر السلمي احتجاجاً على تردي أوضاعهم المعيشية والاقتصادية والسياسية والحقوقية،والمطالبة برحيل quot;نظامهم السياسيquot;، الذي يحكمهم منذ نحو نصف قرن من الزمن وإقامة quot;نظام ديمقراطيquot; يمنحهم الحريات السياسية ويضمن لهم تداول السلطة؟. في ضوء معايشتنا للواقع السوري ومعرفتنا بطبيعة النظام (السياسي والأمني) في سوريا، وفي ضوء حجم وامكانيات quot;المعارضات السوريةquot;في الداخل ،يُستبعد أن تشهد سوريا تظاهرات واحتجاجات شعبية، على الأقل في هذه المرحلة- كتلك التي شهدتها تونس وتشهدها مصر ودول عربية ومشرقية أخرى- استجابة للدعوات التي أطلقتها مجموعات quot;مجهولة الهويةquot; على شبكة التواصل الاجتماعي quot;فيس بوكquot; وأيدتها بعض قوى المعارضة السورية والتيارات الاسلامية والمنظمات الكردية والآشورية المقيمة في الخارج.فيما المعارضات السورية في الداخل التزمت quot;الصمت التامquot; حيال هذه الدعوات،بعضها خوفاً وبعضها الآخر لتيقنها التام بأن الشارع السوري لن يستجيب لها.

من المؤكد أن quot;التاريخ السياسيquot; لسوريا لن يتوقف عند حزب معين أو عند رئيس أو زعيم بعينه.فالدول والمجتمعات البشرية هي الأخرى تخضع لحركة التاريخ وقوانين التطور.ولأكثر من سبب وسبب،لن أتأسف ولن أذرف دمعة واحدة اذا ما رحل quot;النظام البعثي الشموليquot;القائم،الذي فرمل الحياة السياسية والفكرية في البلاد منذ انقلابه على السلطة واحتكاره لها في آذار 1963.

اعتقد بأن الملايين من السوريين يتمنون أن يرحل هذا النظام اليوم قبل الغد،شريطة أن يتم ذلك بشكل سلمي وهادئ ومن دون اللجوء الى العنف.فامتناع السوريون عن للتظاهر والاحتجاج لا يعني بالضرورة أنهم جميعاً راضون عن النظام الذي يحكمهم ولا يعني بالضرورة بأن أوضاعهم وظروفهم المعيشية والاقتصادية والسياسية والحقوقية هي ليست بالسوء الذي يستدعي التظاهر والاحتجاج عليها والمطالبة بتحسينها،وانما صمتهم يعود لأسباب أخرى عديدة ومتداخلة.ابرز هذه الأسباب وأهمها: الخوف من أن يكون البديل لهذا الحكم هو quot;الفوضىquot; والفلتان الأمني والسياسي وليس التغيير الديمقراطي الذي يتطلعون اليه.

لهذا، لن أهلل لتظاهرات ولاحتجاجات غير محسوبة النتائج، أياً تكن الجهة التي تدعو اليها وتنظمها.أن المشهد quot;الدموي المرعبquot;، الذي شهدته quot;ساحة ميدان التحريرquot; وسط القاهرة، بين حشود المتظاهرين المطالبين برحيل النظام المصري من جهة وبين المناصرين له من جهة أخرى، كاف لكل سوري أن يقلق على أمن واستقرار وطنه وأن يقدر حجم المخاطر على السلم الأهلي من quot;فتنة داخليةquot; قد تسببها الاحتجاجات والاعتصامات ضد الحكم القائم في سوريا،حتى لو بدأت سلمية،في ظل حساسية الوضع السوري وخصوصية تركيبته الاجتماعية.ومن الأسباب الأساسية الأخرى لامتناع السوريون عن التظاهر والاحتجاج: انعدام هامش الحريات السياسية ومصادرة حرية التعبير عن الرأي وحق التظاهر وعدم وجود فعل احتجاجي تراكمي شعبي.اذ لا تجربة للسوريين في التظاهر والاحتجاج على أوضاعهم أو الاعتراض على سياسات حكوماتهم.والسوريون لم يسبق لهم أن تظاهروا أو احتجوا من قبل على قضايا معيشة أو سياسية،باستثناء التظاهرات والمسيرات الفلكلورية القسرية المؤيدة للحاكم.بينما في مصر وتونس كانت الفئات المسحوقة تخرج من وقت لآخر في تظاهرات احتجاجية على أوضاعها وضد سياسات حكوماتها.تجدر الاشارة هنا، عندما استلم الرئيس (بشار الأسد)الحكم عام 2000، وتلميحه في quot;خطاب القسمquot; الى أن سوريا ستدخل معه عصر جديد من الانفتاح والإصلاح واحترام الرأي الآخر، تشجعت قوى المعارضة في الداخل على تنظيم مظاهرات واعتصامات سلمية محدودة في العاصمة دمشق في بعض المناسبات الوطنية مطالبة بالتغيير الديمقراطي ورفع حالة الطوارئ.

لكن سرعان ما اختفت تلك الاعتصامات المتواضعة وانتهاء ما سمي بـquot;بربيع دمشقquot; بمجرد عودة السلطة الى سياسة تشديد القبضة الأمنية على المجتمع واعتقال الناشطين من المعارضة.لهذا بقي حاجز الخوف من التظاهر والاحتجاج متجذراً في نفوس وقلوب السوريين.ثمة سبب آخر لعدم استجابة السوريين لدعوات التظاهر والاحتجاج، يجب عدم التقليل من أهميته، يتمثل: بهواجس الأقليات (المسيحية والدرزية والأكراد وأتباع الأقليات المذهبية الاسلامية) من صعود quot;الاسلاميينquot; الى السلطة والخوف من تقنينهم للحريات الاجتماعية والفردية ومحاربتهم لمظاهر الحداثة والحياة المدنية التي يتميز بها المجتمع السوري عن باقي المجتمعات الاسلامية في المنطقة.ثم أن النظام السوري،رغم عيوبه وتفشي الفساد في بعض دوائره وسجله السيئ في مجال حقوق الانسان والحريات السياسية، أعتقد بأنه مازال يمتلك قدر كبير من الممانعة وأسباب القوة،المادية والمعنوية والوطنية، التي تحصنه وتجنبه غضب شعبه.قطعاً، ان عدم خروج السوريين اليوم الى الشارع للتظاهر احتجاجاً، لا يعني أنهم لن يخرجوا أبداً.فإذا ما زادت أوضاعهم بؤساً وتردياً الى مستوى لا قدرة لهم على تحمله من المؤكد أنهم سيخرجون عن صمتهم وسينزلون للشوارع والساحات غاضبين محتجين، تحت تأثير ضغط الظروف وأعباء الحياة (زيادة الضغط يولد الانفجار).

هنا تأتي مسؤولية الحكم في تجنيب البلاد هذا الانفجار وما يمكن أن يسببه من أعمال عنف وفوضى وشغب.والمراهنة هنا هي على النهج الاصلاحي للرئيس الشاب (بشار الأسد).فما قاله الأسد لصحيفة (وول ستريت جورنال) الأميركية يوم الاثنين (31 كانون الأول الماضي) والذي نفى فيه احتمال ان يمتد الاضطراب السياسي الى سوريا: quot; ان الأولوية بالنسبة له تبقى الاستقرار والانفتاح السياسي التدريجي والإصلاحات الاقتصادية وعزمه انتهاج بعض الخطوات الإصلاحية المتواضعة على الصعيد السياسي أو الاقتصادي من خلال إدخال بعض التعديلات على الانتخابات المحلية القادمة والتخفيف من الشروط والقيود المفروضة على المنظمات غير الحكومية وإصدار قانون جديد للإعلامquot; كلام مشجع ويبعث على التفاؤل لكنه ليس كافياً. المنتظر من الرئيس بشار أن يسارع الى البدء بعملية quot;إصلاح سياسيquot; شاملة بالتوازن مع الإصلاحات الاقتصادية،تنقل سورية من دولة الحزب الواحد إلى دولة ديمقراطية تعددية. والتأسيس لدولة quot;المواطنة الكاملةquot;،التي تقوم على العدل والمساواة في الحقوق والواجبات لكل ابنائها (عرباً وكرداً وآشوريين وأرمن وباقي المكونات السورية)، تحكم وتدار وفق دستور وطني جديد، يضمن تداول السلطة بشكل سلمي و ديمقراطي.

سوريا
[email protected]