من المعروف أن الحياة السياسية قبل سقوط النظام العراقي السابق كانت شبه منتهية إن لم تكن غير موجودة أصلا ً داخل العراق. أما بعد سقوط النظام فقد ظهرت ظواهر جديدة كانت غير مألوفة في الحياة السياسية في العراق من قبل. إن من أخطر الظواهر التي برزت بعد سقوط النظام السابق، والتي سأتحدث عنها هنا، هي ظاهرة تحالف السلطة الدينية مع مؤسسات الدولة بصورة عامة، وتحالفها مع الحكومة بصورة خاصة.

لقد عُرف عن المؤسسة الدينية الشيعية عدم تدخلها بالسياسة، فالحوزة الدينية لها وظيفة محددة وهي الحفاظ على الدين والمذهب، حيث لايوجد مشروع سياسي واضح أو حتى نظرية دينية سياسية واضحة المعالم لدى المؤسسة الدينية. أما المتدينين الذين يشتغلون بالسياسة فقد صاغوا لأنفسهم خطاب سياسي خارج إطار المؤسسة الدينية وقد كان ذلك واضحا ً عندما أجبر السيد محمد باقر الصدر أن يترك حزب الدعوة الذي أسسه في العقد الخمسيني من القرن الماضي. أما نظرية ولاية الفقيه فقد نضجت خارج المؤسسة الدينية التقليدية لتتحول هي لاحقا ً إلى مؤسسة لاتزال لاتحضى بالمقبولية في الأوساط الحوزوية التقليدية في أماكن عدة في العالم الإسلامي.

لكن بالرغم من هذا، كان هناك نشاط سياسي شيعي له تاريخ طويل يعمل كمعارضة سياسية ولكن ليس لتأسيس دولة على أساس ديني بل من أجل نصرة المظلومين والمستضعفين في قبال مؤسسة الدولة التي كانت قد تشكلت في فترات مختلفة على أساس التمايز الطائفي، وذلك بحكم الدولة العثمانية التي كانت تتبنى مذهبا ً واحدا ً للدولة. فالمعارضة السياسية الشيعية كانت على الدوم تنطلق من معيار أخلاقي وليس لديها مشروع سياسي واضح. أما بعد سقوط النظام السابق فقد دخلت المؤسسة الشيعية مرحلة جديدة لم تكن قد تهيئت لها، فكانت مواقفها تجاه مايحدث واضحة في مرات، كموقفها من وحدة العراق ولافرق بين السنة والشيعة أو تقويض مشروع الحرب الطائفية، ومواقف غير واضحة في مرات أخرى. أما مواقفها الغير واضحة فهي مثلا ً: موقفها المتغير تجاه كتلة الإتلاف الوطني، من التأييد إلى سحب الشرعية وموقفها الداعم لبعض الأحزاب الدينية المشاركة في السلطة.

لقد خلقت تلك المواقف الغير واضحة علاقات مشوهة بين طبيعة المؤسسة الدينية ومؤسسات الدولة والحكومة. فقد نشأ هناك تحالف خطير، بقصد أو بغير قصد، بين المؤسسة الدينية ومؤسسات الدولة والحكومة. فترى الدولة وإن كانت ديمقراطية تستمد شرعيتها من قبل المنتخبين، وهم الناس طبعا ً، لابد أن تحضى بقبول المرجعية الدينية. ومن جهة أخرى يمكن للمرجعية أن توجه الجماهير بإتجاه قبول طرف على حساب طرف آخر. لقد وعت المؤسسات الحكومية بالخصوص بهذا الدور فأخذت تغازل المؤسسة الدينية، وذلك من خلال المشورة والدعم الغير محدودين للطقوس والشعائر الدينية بشكل كبير. لقد بدى ذلك واضحا ً من خلال دعم سرادق العزاء في الزيارات المليونية وتوفير سيارات النقل للزوار، والأكثر من ذلك أخذت الكثير من مؤسسات الدولة بإقامة العزاء أو المواليد للأمة كوزارة الرياضة والشباب في مولد النبي، أو بتعطيل الحياة الرسمية اثناء الزيارات كتأجيل إمتحانات الدراسة في المدارس والجامعات، أو من خلال تسخير ماكنة الدولة الإعلامية للمناسبات الدينية. لابد أن نذكر هنا أن الدولة في الأعراف الديمقراطية هي حارس وطرف محايد وليس عليها أن تدعم طرف على حساب طرف آخر، كالمناسبات وماشابه ذلك. هذا في نمط الديمقراطية الليبرالية، أما في الديمقراطية الإشتراكية فعلى الدولة أن تميز الأقليات تمييزا ً إيجابيا ً حيث تقوي تلك الأقليات قبال الأكثرية في المجتمع لتمكين الأقليات من مجارات الأكثرية لخلق حالة من التوازن الاجتماعي. ولكن الدولة في العراق تدعم الأكثرية على حساب الأقليات الأخرى وذلك من خلال دعمها للمناسبات الدينية بشكل واضح، مسخرة موارد الدولة لهذا الغرض.

وفي المقابل غضت المؤسسة الدينية الطرف عن مساوئ المؤسسات الحكومية في دور غريب لرجل الدين الشيعي. فقد كان دور رجل الدين الشيعي دائما مع الجماهير، فهو يستمد قوته منهم من خلال أموال الخمس التي يدفعونها من خلاله ومن خلال دعمه ماديا ً في المناسبات حيث يقوم خطيبا ً وقارئا ً فيهم، ومن خلال العلاقة بين المقلد والمقَلد الذي يصدر الفتاوى لمقلديه. فهو المدافع عنهم أما السلطة الحاكمة للدولة، بالعكس من رجل الدين السني الذي يستمد شرعيته من الدولة والذي يأخذ راتبه منها كموظف في تلك الدولة. ولكن هذه الأدوار تبدلت بعدما وجد رجل الدين الشيعي مصدرا ً آخرا ً للقوة بتحالفه مع الدولة آخذا ً بذلك دور رجل الدين السني. فقد دعمت المرجعية الدينية في بداية العملية السياسية قائمة بعينها وبكل وضوح موجهة الشارع الشيعي بإتجاه معين في إستقطاب طائفي معروف. ولكن في المرة الثانية كان الأداء السياسي أكثر نضجا ً مما سحب البساط من تحت أقدام بعض المتحزبين بإسم طائفة معينة. ونذكر أيضا ً موقف الحوزة العلمية بشقيها، الحوزة التقليدية والحوزة الناطقة، من المظاهرات الأخيرة في يوم الغضب العراقي. فقد هدئت المؤسسة الدينية من الشارع بشكل كبير منقذة الحكومة من أزمة كادت تودي بها، وبذلك تبعث رسالة إلى الحكومة بأن المؤسسة الدينية هي من يمسك بزمام الأمور في الشارع العراقي وليس غيرها.

هنا لابد من كلمة أخيرة. إن التحالف بين المؤسسة الدينية ومؤسسات الدولة والحكومة يبدو في ظاهره جميل ولكن عواقبه ستكون وخيمة على الطرفين. فسوف تفقد المؤسسة الدينية من جهة موقعها كمدافع عن حقوق المظلومين الذي حافظت عليه مئات السنين، وذلك عندما لاتكون الجهة المراقبة للحكومة والمعيار الخلقي الذي يضبط مسار العقل السياسي. وبالتالي سوف تفقد قاعدتها ومقلديها إن خالفت الأعراف والتقاليد التي تتطاببق مع التراث الديني الشيعي والذي يستمد قوته من كونه معارضة، كمعارضة الإمام الحسين. ومن جهة أخرى سوف تنحرف الحكومة التي تسيطر على مقدرات البلد بإجمعها بلا رقيب ولاحسيب. حيث لامعارضة هناك تراقبها في البرلمان ولامؤسسة دينية تلعب دور الضمير الذي يضبط العقل السياسي العراقي. أما الديمقراطية، فالنقرء عليها السلام في ضل تحالف بين مؤسستين يستمد الأول شرعيته من السماء، بينما يستمد الآخر شرعيته من القاعدة الجماهيريه حيث لانظرية هناك تصالح بين الطرفين إلى في الفكر السياسي الديني.

http://www.elaphblog.com/imadrasan
[email protected]