وسقطت ورقة التوت، وتبيّن للجميع مدى حقد زمرة القرار اللامرئية في سورية على الشعب السوري؛ زمرة جسّدت كل عقدها وعقائدها في جسد الصبي الشهيد حمزة. عذبته، قتلته، ومثّلت به شر تمثيل؛ وزعمت عبر المنافقين من أبواقها بأنها صورة مفبركة، يستهدف مروجوها مواقف سورية الممانعة والمقاومة؛ وهي الاسطوانة ذاتها التي خرج بها علينا قبل أيام السيد حسن نصر الله، آمراً السوريين بضرورة تقديم فروض الطاعة لسلطة لم تكن أبداً في صف الشعب؛ بل كانت عليه باستمرار. سلطة تسطو على لقمة عيش مواطنيها، تضطهدهم، تهينهم، تدوس على أقدس مقدساتهم؛ سلطة امتلكت قوتها عبر الأذرع القمعية التي تُسمى زوراً وبهتاناً الأمنية، إلا إذا فكرنا في أمن النظام. فهي أجهزة قد وُجدت من أجل الإبقاء على نظام لم يمتلك أية مشروعية في أي يوم؛ أجهزة نخرت الجسم السوري، بل امتدت سمومها إلى الضمائر على المستويين الجمعي والفردي سواء في الداخل السوري أم في المحيط العربي القريب منه والبعيد.

كم شعرنا بالمرارة والحزن ونحن نرى أنفسنا وحيدين في مواجهة واحدة من أبشع الدكتاتوريات في عالمنا المعاصر هذا. دكتاتورية اعتمدت السلاح والمال والإعلام والطائفية أدوات في إستراتيجية التأبيد؛ دكتاتورية تريد البقاء بأي ثمن وإلى الأبد، معتمدة في ذلك على جملة من المرتزقة، وضعاف النفوس، وأصحاب الولاءات البدائية ما قبل الوطنية، ليصبحوا مجرد براغي في ماكينة القمع الكبرى. دكتاتورية وضع أسسها الأسد الأب بمعية طاقم من quot;المعلمينquot; المنتفعين الذين توافقوا على استمرارية النهج ذاته عبر الأسد الابن الذي كشفت ثورة الكرامة السورية أوراقه، ليظهر للقاصي والداني أنه شريك في عملية القتل الجماعي التي يتعرض لها السوريون هذه الأيام، شريك فاعل أو مفعول به لا يهم؛ فهو بحكم مناصبه التي تسلّمها من زمرة القرار بعيداً عن أعين ورغبة وإرادة السوريين. مسؤول عن أي تحرك عسكري، عن أي تطاول أمني، عن أي تجييش غرائزي، فهو القائد العام للجيش والقوات المسلحة، ورئيس مجلس الأمن القومي، والأمين القطري لحزب البعث، ورئيس الجبهة الوطنية التقدمية، إلى جانب كونه رئيس البلاد، وربما لديه مهام أخرى سرية يجهلها السوريون؛ فهو باختصار الحاكم المؤله الذي لا يأتيه الباطل من أمامه أو من خلفه؛ ومن الحري بأي رئيس في مثل هذا الوضع أن يكون مسؤولاً عن أية شاردة وواردة تمس شؤون الوطن والمواطن.

ولكن ها هو مسلسل القتل مستمر في مواجهة السوريين المطالبين بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة؛ مسلسل تسبب منذ انطلاقة ثورة الكرامة السورية حتى الآن في قتل حوالي من 1200 سوري، وربما أكثر، فالمجهول لم يُكشف بعد. كما أن المسلسل ذاته قد أدى إلى جرح واعتقال الآلاف، هذا إلى جانب أعداد كبيرة من المفقودين؛ وهذا فحواه أن العدد الحقيقي للشهداء يتجاوز المعلن بكثير، لأن المفقود في سورية وفق القاموس الرسمي، معناه القتيل بموجب التجربة والخبرة. كما أن عدداً من المعتقلين تتم تصفيتهم بأبشع الأساليب وأقذعها، ليسلموا فيما بعد إلى ذويهم، رغبة من العقلية السادية القمعية أن يكونوا رسالة رعب موجهة إلى السوريين جميعاً، وحالة الصبي حمزة الخطيب هي من الحالات النموذجية في هذا الميدان.

لكن الرعب لم يعد له مكان بين جميع السوريين بكل انتماءاتهم وتوجهاتهم وجهاتهم، هؤلاء الذين أعلنوها ثورة سورية كبرى ثانية بغية التخلص من سلطة الاستبداد والإفساد؛ سلطة امتهنت الجريمة سلاحاً لترويع الناس، وإرغامهم على الصمت. لقد بات الخوف بالنسبة إلى أحرار سورية في إطار الفعل الماضي المنصرم، لأن المضارع السوري يؤكد في كل جمعة- بل في كل ساعة- أن الرعب أصبح حكراً على النظام وحده، هذا النظام الذي يعيش حالة هستيرية عشوائية، قوامها البطش والكذب واللعب على جميع الحبال. وما يُستشف من الأبعاد المستقبلية للمضارع المعني يؤكد أن السوريين والسوريات قد وصلوا إلى نقطة اللاعودة، نقطة الاستمرار حتى رحيل النظام الأمني القمعي؛ فالحوار لم يعدْ ممكناً، إذ لا حوار ولا مهادنة مع القتلة. لم يعد بيننا وبين هذا النظام أي شيء سوى الاتفاق على توقيت الرحيل؛ فالثقة باتت معدومة بتاتاً بعد حمزة، المصداقية تلاشت بعد حمزة، والخوف تحوّل عنفواناً وإقداما بعد حمزة.

قبل حمزة كانت هناك مبادرة أو مبادرات؛ وقلنا دائماً أن الوقت يمر بسرعة، والأحداث تتلاحق وتتفاعل، وما هو مقبول اليوم ربما لن يكون كذلك غداً، ونحن نرى اليوم أن ما بعد حمزة ليس كما قبله. لقد فهم السوريون الرسالة، ولم يعد أمامهم سوى الصمود والصبر في مواجهة القمع غير المسبوق الذي يتعرضون له من قبل نظام كان في يوم من الأيام موضع إعجاب الكثير من العرب خارج سورية، هؤلاء الذين لم يصدقوا السوريين، بل كانوا يلومونهم، ويدعونهم إلى التعقل والقبول بالذبح طواعية، ليكونا قرابين مذبح شهوات النظام تحت يافطات الممانعة والمقاومة وغيرها من الشعارات التي لم يصدقها السوريون في أي يوم.

إنها بالنسبة لنا ساعة مفصلية حاسمة، تتحدد فيها المصائر، لذلك فإننا نحمّل الجميع مسؤولياتهم. إنها ساعة الوقوف مع الضمير، ساعة العزة والكرامة. السكوت على جرائم النظام مشاركة غير معلنة في الجرائم ذاتها. لا نريد نوايا فالله وحده هو من يحاسب عليها؛ نريد تعبيراً وأفعالاً، نريد تحركاً وتضامناً. أما أن يتفرجوا على السوريين وهم يذبحون في ضوء النهار، فهذا أمر لن يغتفر، والدم السوري أغلى بكثير مما يتصورون؛ إن كانوا لا يخجلون من العباد، ألا يخشون من رب العباد.

إنها أيام النخوة والإباء. لا مجال للتراجع، لا مجال للتراجع. الثورة إما أن تكون أو لا تكون. الثورة أما تنتصر أو تكون الكارثة.

إنها أيام مصيرية تلزمنا جميعا بوحدة الصف، والترفع فوق الحساسيات والحزبيات الضيقة النطاق والأفق. نحن لا نلعب أيها الأخوة والأخوات؛ نحن نواجه واحدة من أعتى الدكتاتوريات التي شهدها العصر. لا يجوز لنا أن نبدد الطاقات والجهود بين مناقشات عقيمة حول لقاء يتم هنا، أو تجمع يتم هناك. نحن جميعاً ملزمون بالبحث عن قواسم التواصل، لنتمكن من الانتقال إلى مرحلة الفعل المشترك. لا يجوز لمن هو في الخارج من السوريين أن يكون السبب في تراجع معنويات الداخل. لا يجوز لنا أن نهرول من أجل الظفر بألقاب لا رصيد لها. التاريخ يُكتب هناك في الوطن العزيز؛ تاريخ أبطاله الشباب السوري في جميع المناطق من جميع الانتماءات. شباب تجاوز عصبيات وعقد جيل النكسات والهزائم؛ شباب أقسم على مقارعة الاستبداد فخرج يحمل صليبه على ظهره، ليقطع مع عقلية النفاق والتسويف والتدجيل. شباب يستحق منا كل التقدير والاحترام؛ وأبسط شيء نقدمه له في هذا المجال هو أن تتوافق الإرادات بغض النظر عن أمكنة اللقاءات وأسمائها، وذلك بغية التركيز معاً على هدف مشترك نبيل يتمثل حصراً في مساندة الشباب الثائر في سعيه المشروع من حرية وكرامة السوريين جميعاً من دون أي استثناء.