لا شعب قتله الصمت مثل الشعب العراقي. صمت حفر في وجداننا وعظامنا، وما يزال. إنها وحشة أن تكون وحيدا أمام الموت.. كم كنا وحيدين أمام صدام حسين! أحدث ذلك الصمت شرخا نفسيا وفكريا وبين العالم الخارجي، وخاصة العربي. والآن يبدو أن دورنا قد جاء لنمارس لعبة الصمت القاتلة ، الأشد فتكا من فعل القتل نفسه. لماذا نصمت أمام مذبحة شعب هو الأقرب إلينا. شعب آوانا طويلا، وتقاسمنا معه خبزه وماءه. لماذا لا نتقاسم الآن بعضا من ألمه معه، ولو بالكلمات، أو بصرخات مبحوحة تأتي من بعيد، وقد لا تصل إليه. ولكن، في الأقل، سنقول له يوما: لقد صرخنا من أجلك، وإن لم تسمعنا. كيف يمكن للإنسان أن يسكت على قتل إنسان آخر؟
نفهم صمت الحكومة الخضراء. ولكن يمكن أن نفهم صمت كتابنا وشعرائنا وفنانينا وصحفنا ونشطائنا من أجل حقوق البشر؟ أين هم؟ لماذا لم نسمع أصواتهم بعد؟ لقد سمعنا أصواتا من السعودية، ومصر، والأردن، وحتى تونس و المغرب.. ماذا حصل لاولئك الذين تألموا طويلا من الصمت العربي؟ ما حصل لاولئك الذين علمونا أن نبكي من أجل إنسان يقتل في جزر الواق واق ، وهو شىء عظيم، ولكن أين هم الآن؟ كيف استبدل وكيل وزير الخارجية العراقي بضميره الشيوعي لسان الإعلام البعثي السوري ، فتحدث عن جماعات مسلحة في سوريا، وهو الذي عاش طويلا في هذا البلد، ويعرف أن لا ذبابة تطير في سمائه من دون أن ترصدها مخابراته العتيدة؟ أين اتحاد كتابنا العريق الذي أسال مياه وجوهنا حين كان يستجدي اسعادة عضويته في النادي الثقافي للسلطات العربية، الذي اسمه اتحاد الكتاب العربquot; بإدارة البعثي السوري علي عقلة عرسان؟ لماذ يسكت الآن على الدم الذي يسفحه رفاق عرسان؟ أين ذهب المنفى، والقمع، والسجن، والموت من أجل تلك الكلمة الحلوة، التي اسمها : الحرية؟ لماذا لا نرى لافتة واحدة ترفع في ساحة التحرير؟ لا نريد، ثانية، أن نسمع شئيا من الحكومة الخضراء، فهذا لا يرفع رؤوسنا أنملة واحدة، بل نريد من العراقي الحقيقي أن يمسح عار الصمت عن العراق. فهو يعرف جيدا ماذا يعني الذل والقهر والموت والقتل الرخيص، وهو يعرف كيف تقاسم فتيانه المقابر الجماعية في انتفاضة آذار1991 على يد البعث العراقي. وها هي انتفاضة آذار سوري أخرى. وها هي المقابر الجماعية مرة أخرى على يد البعث السوري. كم مقبرة ننتظر حتى نرفع أصواتنا؟ ألم يحن زمن الكلام بعد؟ لم يقل لنا السوريون ذلك، فهم مشغولون بالحرية ودفن موتاهم معا، وليس هذا وقت العتب. لكني أحس أنهم يختنقون بصمتنا نحن العراقيين بالذات من كثرة الحب الذي لا نريد له أن يتحول إلى ذكرى. أحبابنا .. صمتنا يخنقنا قبل أن يخنق الآخرين.