في ذلك اليوم قبل أكثر من أربعين عاما.. كنت طفلا جالسا على الحصيرة مع أمي وجارتنا، وكان الراديو وسيلة الترفيه الوحيدة في البيت مفتوح على برنامج يذيع أغاني عراقية ريفية، ما أن بدأت الأغنية حتى إندلع نحيب مر من جارتنا...أرعبني المشهد الذي كان أول مرة في حياتي أرى شخصا يبكي عند سماعه أغنية فقد تعودت رؤيت الناس وهم يبكون في المآتم وغيرها.
بكت بمرارة على وقع كلمات وموسيقى الأغنية، كانت جارتنا تعمل ليل نهار مع زوجها في تربية الأغنام ومن ثم بيعها، كانت حياتها لاتختلف عن حياة الخراف والنعاج حيث تأكل وتنام معهم، كانت نموذجا لحالة الإستلاب والقهر الذي تمارسه قساوة الظروف والتخلف والسقوط في هاوية تعاسة الحظ، والقدر المجهول الذي ألقى بها في مكان وزمان وحياة هي لم تخترها ولم تُسأل عن رأيها فيها قبل خلقها، قذف بها في الجحيم على حد تعبير الفيلسوف الوجودي سارتر !
أحرقت حرارة الشمس، وسوء التغذية، والإرهاق المتواصل جسدها، وإنطفأ سريعا شبابها، وأصبحت مجرد هيكل عظمي غادرته الحيوية والأنوثة، لقد إستنزفتها وحشية الظروف التي نهشتها بقساوة، وفجأة إستقيظت على طعنة غدر من زوجها الذي بعد ان إمتص شبابها وحرار روحها، وراكم الثروات من تعبها مع الأغنام... إستفاقت على خبر زواجه من إمرأة ثانية أصغر منها عمرا قادرة على تحريك شهواته الجنسية، أو ربما يتوهم هكذا، فالرجل عموما كلما جمع أكبر عدد من النساء حوله صديقات أو زوجات... ينتفخ ريشه ويتوهم انه حقق ذاته ورجولته بهذا الإنجاز الهمجي، تراجعت الى الخلف وتوارت خلف جدران إسطبل الأغنام التي زاملتها طوال العمر، كانت من بعيد تسمع أصداء ضحكات وهمهمات ضرتها وزوجها، كانا يقيمان أفرحهما فوق عذابات جراحها.
رأيتها تبكي ثانية أمام الساحر الذي جاء عارض خدماته في منطقتنا، وإدعاء عمل المعجزات بواسطة ممارسة اعمال السحر، جلست بين يدي الساحر بخشوع وتوسل ورجاء الحصول على معجزة الخلاص (( أريدها تصرخ : لاأريده وأريد الطلاق منه..وأريده يصرخ لاأريدها وأريد تطليقها )) إستغاثت بالساحر وطلبت منه تحقيق أمنية عمرها الكبرى تلك، وأجهشت بالبكاء والنحيب، وراح الساحر يتصنع الألم من أجلها، وإغداق الوعود الكاذبة لها بتحقيق طلبها بعد ان قبض منها مبلغا من المال مقدما، وماتت من وجع طعنة الغدر ولم تتحق معجزة الساحر!
لماذا وضعتُ تحت سطوة ذلك القدر المدمر، ومن وضعها أصلا وكتب قصة تعاستها منذ لحظة إختيار مكان وزمان هبوطها في أحضان عائلتها، أسئلة الوجود التي تغيب وتحضر حسب شعورنا بالفرح والسعادة والتعاسة، وألغاز غامضة، وإجابات غائبة عن طبيعة العدالة والأقدار، لماذا نُخلق ونتعذب في هذه اللعبة التي تسمى الحياة ألم يكن بالإمكان أن نحيا جميعا أخيارا سعداء طالما ان من خلقنا عادل ورحيم وقادر على كل شيء؟!
التعليقات