منذ أن جاءت نتائج الانتخابات في مصر بالنصر المظفر للإسلاميين، الذي أُصر، بعكس الجميع، على أنه كان متوقعاً، يسعى البعض لتصنيف الجماعات الدينية على أسس جديدة لم نكن نعتدها قبل الخامس والعشرين من يناير الماضي. أصبحت جماعة الإخوان المسلمين، بقدرة إعجازية، قوة إسلامية معتدلة في نظر الكثيرين من السياسيين والمحللين المحليين والغربيين. لم يعد غريباً أن تجد أن الأخبار التي تتداولها وكالات الأنباء العالمية تشير إلى الجماعة على أنها معتدلة ومتوازنة في سياساتها ويمكن للغرب التعامل معها من دون مواجهات. بلغ الأمر أن ذكرت محطة الأخبار الكندية الرسمية CBC أن الجماعة هي الخيار الأمثل لمصر المستقبل وهو الأمر الذي يبدو أنه أثار دهشة الإخوان أنفسهم فأبرزوه على صدر موقعهم الإلكتروني. وللحق لست أدري على أي أساس اعتمد السياسيون والمحللون في تصنيفهم للجماعة على أنها معتدلة رغم أن الغالبية العظمى منهم كانت حتى عام مضى تصف الجماعة نفسها بأنها متطرفة وتفرِّخ الجماعات المتشددة والإرهابية.


أغلب الظن أن السياسيين والمحللين اقتنعوا، أخيراً، بأن لا مستقبل لليبرالية والديمقراطية والحرية في مصر بعدما قاد ما يزيد عن 75% من الشعب الإسلامين إلى دفة الحكم. لم يعد المحللون والسياسيون يقارنون بين التيارات الليبرالية والإخوان وإنما أصبحوا يقارنون بين الخيارات الإسلامية الكثيرة الموجودة على الساحة المصرية التي يجيء على رأسها الإخوان المسلمون والسلفيون. ما كان أمام المحللين إلا القبول بأن الإخوان جماعة معتدلة مقارنة بالسلفيين الأكثر تشدداً وتطرفاً. الأمر بالنسبة للسياسيين والمحللين إذن نسبي فالإخوان معتدلون مقارنة بالسلفييين. ولكن هل يعني هذا أن الإخوان حقاً جيدون ومعتدلون وعادلون؟ الأمر هنا بالتأكيد يختلف تماماً.


من المؤسف أن الكثيرين انخدعوا في التصريحات الوردية التي يملأ بها قادة الإخوان صفحات الجرائد، فتصريحات الإخوان الدعائية تختلف تماماً عن خطابيهم السياسي والديني المتطرفين. الإخوان لم يكونوا أبداً معتدلين ولن يكونوا لأنهم لم يغيروا من معتقداتهم التي بنوها على تعاليم عدد من مفكري الجماعة الأوئل الذين يأتي على رأسهم المنظر الأول للفكر الإسلامي المتطرف في العصر الحديث سيد قطب. يقوم الخطاب السياسي للإخوان بالأساس على تعاليم قطب الذي تحفل كتاباته بأراء تكفيرية تقوم على تقسيم المجمتع إلى قسمين مؤمن بالإسلام وجاهلي كافر وكذا آراء جهادية تدعو لاستخدام العنف لإسقاط الأنظمة غير الإسلامية ولإبطال المنكر. لم يتخل الإخوان أبداً عن آراء الفكر القطبي الذي يطالب المسلم الحقيقي باستخدام العنف والجهاد المسلح لتغيير المنكر والقضاء على كل مظاهر المجتمع الجاهلي (غير المسلم) وإحلالها بمظاهر إسلامية عبر تطبيق الشريعة.


لا يساوروني الشك في أن الإخوان لا يقلون تطرفاً وتشدداً عن السلفيين أو الجماعات الإسلامية الأخرى التي تستخدم العنف الجهادي لتحقيق أهدافها. يحمع الإسلاميين بشتى انتماءاتهم هدف واحد وهو تحقيق المجتمع الإسلامي والخلافة الإسلامية والقضاء على كل المظاهر غير الإسلامية في المجتمع. الفارق الوحيد بين جماعات الإسلام السياسي هو التكتيك الذي يستخدمه كل طرف لتحقيق الهدف. الإخوان جماعة تعرف بالمكر والخداع والقدرة على المناورة وهي قددرات اكتسبتها من عملها السري طوال العقود الستة الماضية. أما السلفيون الذين لا عهد لهم بالسياسة فقدرتهم على المناورة صغيرة لأنهم لا يهتمون بالوسيلة بقدر اهتماهم بالهدف الذي يتلخص في تحقيق مشروعهم الإسلامي.


ربما لا يسعى الإخوان للتغيير الجذري المفاجيء كما يريد السلفوين. يصرح قادة الإخوان علانية بأن الشريعة الإسلامية لن تطبق بكاملها على الفور وإنما ستطبق بالتدريج. تصريحات كهذه لا تعكس اعتدالاً بقدر ما تعكس قدرة الإخوان البارعة على المناورة السياسية والخداع. وليعلم الجميع أن السبب في رغبة الإخوان بالتطبيق التدريجي للشريعة يرجع لإدراكهم مدى صعوبة التطبيق في مجتمع يغلب على أفراده الفقر والجهل والأمية والرغبات الجنسية المكبوتة.


هناك حدث جرت وقائعه مؤخراً يعكس الفارق الوحيد بين جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين. يؤكد الحدث على أن التكتيك وحده هو الفارق بين الطرفين. الحدث باختصار هو إعلان السلفيين رفضهم تهنئة الأقباط المسيحيين بعيد ميلاد السيد المسيح. علل السلفيون موقفهم بأن الاحتفالات المسيحية بالعيد تتعارض مع العقيدة الإسلامية. لم يتراجع السلفيون عن موقفهم رغم الضغوط الكبيرة التي تعرضوا لها والانتقادات الواسعة التي التي طالتهم. تمسكوا بموقفهم ولم يرسل حزبهم ممثلين عنهم في الاحتفالات الكبيرة التي أقامها المسيحيون في كنائسهم قبل يومين. التقط الإخوان ذلة السلفيين وانتقدوها وسعوا لاستغلالها لمصلحتهم بغرض الظهور أمام العالم برداء الاعتدال.


لكن الإخوان سقطوا في ما سقط فيه السلفيون عندما رفض ممثلاهم محمد مرسي وسعد الكتاتني حضور الاحتفالات التي ترأسها البابا شنوده. قام مرسي والكتاتني بانتظار وصول البابا إلى الكاتدرائية، وما أن جلس الرجل على مقعده حتى قاما بالذهاب إليه ومصافحته والهمس في أذنيه ببعض الكلمات التي لا نعرف مضمونها وإن كانت بالفعل تهنئة تليق بالمناسبة أم أنها مجرد ظهور دعائي للجماعة. لن يفصح بالطبع البابا، المعروف بدبلوماسيته المعهودة مع رجال الحكم، عن مضمون ما قاله له مرسي والكتاتني. مرت الحدث على الجميع كمرور الكرام، وصفق الأقباط للإخوانين مرسي والكتاتني واعتبروا وجودهما دليلاً على حسن النية. لم يلتفت الأقباط المساكين إلى أن رفض ممثلي الإخوان حضور الاحتفالات هو نفسه رفض السلفيين وأن المرجعية التكفيرية الرافضة للأخر التي اعتمدها الإخوان في رفضهم الحضور هي نفسها المرجعية التكفيرية الرافضة للأخر التي استند عليها السلفيون. الفارق بين الجانبين تمثل فقط في قدرة الإخوان على المناورة والخداع في الوقت الذي افتقد السلفيون فيه المرونة السياسية.


رغم أن رفض الاشتراك في احتفالات المسيحيين يعكس ضيقاً مرفوضاً في الأفق وتزمتاً سيئاً وتطرفاً مقيتاً، إلا أنه لا يمكن لوم الإخوان والسلفيين على موقفهم السلبي لأنه لم يكن يجب من الأساس أن يتوقع أحد منهم ما هو أفضل. ولعله من المنطقي هنا التوجه للإسلاميين المقبلين على حكم مصر ببعض الأسئلة التي أتمنى أن يجيبوا عليها. فهل يتقبل الإسلاميون الموقف إذا انسحب المسيحيون من حضور أية جلسات أو احتفالات من التي تتلى فيها نصوص من القرآن لأنها نصوص تتعارض مع عقيدتهم؟ وماذا سيكون موقف الإسلاميين إذا رفض طلبة وتلاميذ المدارس من المسيحيين حفظ أو قراءة نصوص القرآن، التي يفرض عليهم حفظها، لأنها نصوص تخالف عقيدتهم؟ وماذا إذا رفض المسيحيون دفع الضرائب التي بعض من يذهب ريعها لتمويل الأزهر وتعليمه القاصر على المسلمين وكذا إلى وسائل الإعلام الرسمية التي تروج للعقيدة الإسلامية؟ هل يقبل الإسلاميون بمواقف قبطية كهذه أم أن احترام العقيدة والالتزام بها يجب أن يكون قاصراً على المسلمين وحدهم؟


لا شك في أن موقف الإسلاميين من مناسبة عيد الميلاد للمسيحيين يؤكد على أن ما ينتظر في مصر تحت حكم الإسلاميين لا يبشر بالخير. سينفذ الإسلاميون ما يريدون ويجبرون المسيحيين على الخضوع للحكم الإسلامي وشريعته التي تنكر تماماً حقوق غير المسلمين وتعاملهم على أنهم أهل ذمة عليهم واجبات كدفع الجزية والضرائب من غير أن تكون لهم أية حقوق. ما ينتظر مصر، في ظل تطرف الإسلاميين، هو دكتاتورية الأغلبية وسحق الحريات الفردية وقمع الأقليات. وإذا كان موقف الإسلاميين من المسيحيين في عيد الميلاد يؤكد على أن الالتزام والتطرف الدينيين سيفرّقان بين المسلمين والمسيحيين في مصر في الفترة القادمة، فإنه من المؤكد أن الموقف ذاته يجعلنا نتحسر على الدولة المدنية العلمانية التي طالما حلمنا بها وتمنيناها لمصر. لا يوجد ما هو أهم من الفصل الكامل للدين عن الدولة لأنه وحده القادر على توحيد الفرقاء وضمان حقوق كل أفراد وطوائف الشعب الواحد.

[email protected]