الآن بدأ يصحُّ الصحيح في بلاد العرب: يموت السياسي الوسخ، فيُشيّع بلا أسف، أو باللعنة. ويموت المثقف النقيّ، فيشيّع بالرحمات والإحساس الكبير بالخسارة. انتهت المسخرة السابقة، التي دامت قروناً وقروناً، وبدأنا نصبح مثل الناس المحترمة، في البلاد المحترمة: تحترم مثقفيها وأدباءها، وتنظر باستخفاف لسياسيّيها. زمان، كان السياسي التافه المفرغ كالطبل، يمشي بيننا، فتكون له شنّة ورنّة، حتى لو جاء لحضور مجلس عزاء. بينما يمشي الأديب، على باب الله، فلا نحسّ به من الأصل، أو نحسّ وننبس بكلمة واحدة: غلبان.
والحقيقة، أنني أحسّ بالانبساط، في هذين اليومين الأبيضين، من أيام العرب السوداء. فكلما استرجعت مدى ما كان يحصل عليه السخفاء العرب [أقصد الرؤساء] ومعاونوهم، ومعاونو معاونيهم، وهلمجرا، من تقدير عبودي مبالغ فيه، يهولني حجم ومقدار الخيبة التي كنا نخبّ في أذيالها. تقدير على إيش، وتقديس على إيش؟ إيش حال لو كانوا أصحاب إنجازات؟
ذات يوم، من زمن قريب، كنت كعادتي أتمشّى بلا هدف، سوى المشي ذاته ومتعة مراقبة الناس، فإذا بي على حدود مخيم للاجئين، أمام ساحة، وإذ بعشرات السيارات الزرقاء، وعشرات المرافقين وقطع السلاح، في جمهرة كبيرة أشبه بالزّفة. توقفت وسألت صبياً يتفرّج، فقال لي إنّ فلاناً جاي لزيارة أخته. وفلان هذا لا يزن مثقال بعرة، في موازين البلاد المتحضّرة.
لا أعرف لمَ جاء في خاطري حينها طيف أبو حيان التوحيدي، رحمة الله عليه. فلا علاقة بين ما أرى وما جادت به ذاكرتي القرائية.
سألت نفسي يومها: وماذا لو جاء أبو حيان لزيارة أخته؟ هل كان أحد يحسّ به وبأخته؟ ثم مضيت لحال سبيلي، وفي فمي كلمة مُرة ألوكها: عرب!
الآن، هاهم العرب، بعد أن زالت عن بعضهم الغشاوة، يعرفون، كما عرف المحترمون من قبلهم، أنّ ما ينفع الناس هو ما يستحق التوجيب. ما ينفع فقط. سواء في السياسة أم الاقتصاد أم الأدب أم اللعب.
وعليه، هاهم يقدّرون مَن يستحق التقدير، وبالذات إذا كان واحداً من طينتهم، يحمل همومهم وآمالهم، دون أن يتاجر بها، ويكدح طول عمره، لكي يعبّر عنها أحسن وأرفع التعبير.
فقبل أيام مات إبراهيم أصلان، الروائي والقاص المصري، وقرأنا عشرات المقالات في رثائه، بينما قبلها بمدة، مات القذافي، فلم نجد من يترحّم عليه، إلا من هم على غراره. وعلى ذلك قِس.
لذا أنا مبسوط هذين اليومين. فما يحدث شيء طيب وجميل: باختصار: بدأ الصحيح يصحّ في هذه الجغرافيا. وبدا ما كان حلماً في رؤوس الحالمين منّا، يتحوّل إلى واقع.
وإنّ هذا، لو تدرون، لأمر ليس بالهيّن. إنه بداية موسم الخير، رغم كل المعيقات والخوازيق القادمة على الطريق. يكفي أن زالت هالة التقديس عن سياسيّينا. ومن اليوم وطالع سيُسألون: ماذا أنجزتم؟ فلم تعد الشعارات، تكفي، كما في السابق. ولم يعد أحد [أو هكذا نأمل] يصدّقها أو ينخدع بها. حتى لو استبدل الناخبُ الآن البقرةَ الضاحكة بالبقرةِ الكئيبة .. أي لو ذهبَ للدين السياسي. فالدين السياسي مرحلة ستعبر ولا بد من تجريبها [كما جرّبها غيرنا] قبل أن تعرف الناس الفجر الحقيقي من الفجر الكاذب.
من هذه الناحية، أنا مطمئن.
وعليه، فإني في هذا المقال، على غير عادتي منذ عقود، مبسوط ومطمئن. ليس بالشكل الذي أريده، يعني، إنما شيء أفضل من لا شيء. والحق، أنها أشياء تغيّرت لا شيء واحد. زلزال وانفجر. وسيصل إلى الغميق، كما وصل إلى الشاهق. فعربة البوعزيزي تحرّكت. وهاهي التربة تحتها، بعد طول إهمال وانجماد، تُقلَّب، ويتخلّلها الهواء والضوء. ولم يبق إلا أن نبذر البذرة، ونسقيها بالماء (متسلّحين بتفاؤل الإرادة، بعد أن جرّبنا طويلاً تشاؤم العقل) ونغالب لكي يطلع أفضل الثمر.
- آخر تحديث :
التعليقات