أبغض شيء عند الله هو التعصب الأعمى لأي شيء. ففي جميع كتبه وعلى ألسنة جميع رسله ظل يوصي عباده المؤمنين بالوسطية، ويؤكد لهم أن خير الأمور أوسطها. إلا أن ما جرى ويجري في العراق من عشرات السنين من مصائب وبلاوي سببه ودافعه وصانعُه التعصب والتزمت واالبعد عن الاعتدال في الموقف والخطاب والثقافة.
والمحزن الأليم أن أكثر المتعصبين الرافضين لفكرة الاعتدال والوسطية هم جمهرة المعممين الحاكمين اليوم في العراق، سواء وضعوا عماماتهم فوق رؤوسهم أو داخلها. إنهم يخالفون وصايا الله ورسوله، وهم لا يعلمون.
ومثلهم كثيرون من قرائنا العراقيين حين يحبون لا يسمحون حتى بمجرد الظن بأن فيمن أحبوه بعضَ الخلل أو النقص أو السوء. وعلى من يكتب ألا يمس ذلك المحبوب بشيء، لا من قريب ولا من بعيد، وأن ُيقر ويعترف بأنه معقم وخال ٍ من العيوب.
هكذا يبدو لي أحباب نوري المالكي. فهو لديهم آخر العباقرة، وأوحَدُ زمانه، وخاتم الزعامة والزعماء في هذا الوطن الأجدب العقيم، وهو الأشجع والأبرع والأروع والألمع والأمنع بين جميع الرجال، دون جدال.
بعبارة أخرى. يكاد لا يبقى لديهم سوى أن يطلبوا منا أن نُسبِّح بحمده بُكرة ًوعشيا، ونلتمس منه الطعام والشراب والهواء والبركات والحسنات والهدايا والأعطيات.
أما إذا سولت لكاتب مثلي نفسٌ أمارة ٌبالسوء بأن أزعم بأن نوري المالكي مخادع، ومراوغ، ومزور، وألعبان، وأفعوان، ومطنش عن المرتشين، وساكت عن أصحاب الشهادات المزورة، وملفق ملفات وأضابير، ومتآمر على حلفائه وإخوته في الجهاد، وواضعٌ قدما في واشنطن وأخرى في طهران، فأنا خارج على الوطنية، وعلى دولة القانون، وعلى الشريعة، ويصبح اغتيالي بكاتم صوت أو بملف أو بفضيحة واجبا شرعيا ُيقرِّب إلى الله ورسوله والمؤمنين.
في آخر مقال حول صفقة الأسلحة الروسية (المشبوهة)، كما وصفها مستشار المالكي علي الموسوي بعظمة لسانه، غضبَ علي أحبة ُرئيس الوزراء، واتهموني بالتحيز وبالعداء، وحمَّلوني قلة الضمير وقلة الموضوعية لأنني لم أشتم الكورد، ولم أقل إن مسعود البرزاني كان قد استقبل حازم الشعلان، حين هرب من العراق، وطالبوني بأن أكون شجاعا وعادلا فأهاجم قادة كردستان وألقي عليهم، وليس على غيرهم، بمسؤولية ما حدث ويحدث في العراق العربي (الجديد) من منازعات ومشاكسات ومعارك بالمفخخات والكواتم والكراسي والأحذية.
أنا كاتب سياسي مستقل، أكتب كثيرا عن وطني العراق، وأحاول بأقصى ما لدي من قوة وخبرة ومعلومات أن أشخص الخلل، وأشير إلى الذي كان ينبغي، وإلى الذي لم يكن ينبغي، غير عابيء بمن يرضى ومن يغضب علي. وليس مفاجئا ولا مُستغربا أن يشتمني الذين أضعهم دائما في رأس قائمة أعداء الوطن، وفي خانة الخراب والمخربين. فالأخطر من المالكي على الوطن وأهله هم عبيد المالكي المتعصبون له المدافعون عنه ظالما أو مظلوما، خاطئا أو مصيبا، صادقا أو كاذبا. إنهم مضَّللون ومضللـِّـون.
ومرة أخرى. إن علينا أن نكون منصفين وموضوعيين وعادلين عند الحديث عن الكورد وكردستان.
فمهما قيل ومهما يقال عن الفيدرالية وعن وحدة الوطن الورقية الكاذبة فإن كردستان، بما أصبحت عليه، منذ عام 1991 وحتى اليوم، ولاية كانت ساكنة في العراق ثم غادرته وخرجت من عباءته إلى عير رجعة، وأصبحت دولة كاملة يدخلها العراقي بتأشيرة مسبقة، لها حكومتها وجيشها وعلمها وبرلمانها وسفاراتها.
وهي، مثل أي بلد آخر في عالمنا الثالث، فيها من الحسنات الكثير، وفيها من السيئات الكثير، كذلك. ولكن هامش الحرية وضيق مساحة الفقر وبعضَ الخدمات وبعضَ البنى التحتية وبعض العمران وبعض المستثمرين أمور تجعل منها في نظر العراقي القادم من دولة القانون سويسرا أو السويد.
ثم يكفي كردستان أن فيها كثيرا من الأمن والأمان. ففيها يستطيع المواطن، والمقيم أيضا، أن يحظى بنوم آمن على مخدة خالية من الدموع أو الدماء.
وبعد هذا وذاك فإن لكردستان كـتابهَا وأدباءَها وإعلامييها النابهين المتنورين الشرفاء الشجعان، وهم غير قاصرين، ولا يحتاجون إلى أقلامنا في معاركهم الحامية التي يخوضونها مع حكومتهم، والتي لو خاض زملاؤنا في بغداد رُبعَها لاختفوْا بكاتم صوت أو بفضيحة أو برشوة أو بملف يغص بتهم الإرهاب والعمالة وحيازة المفخخات. إن لهم ساحتهم، ولنا ساحتنا، والأقربون أولى بالنقد والمكاشفة والمساءلة والتقريع.
ثم إنني لست مقيما في كردستان، ولا أتابع ما يجري فيها، مثلما أفعل مع الجزء الذي أرضعني وأمدني بالعقل والضمير، وطالبني بأن أكون معه في ضرائه، ومنعني من أكون معه في سرائه، مع الأسف الشديد.
إن ما يجعل كردستان أخفَّ هما على قلوب أهلها، وعلى قلوبنا نحن أشقاءهم وأصدقاءهم عربَ العراق، أن فيها قائدا واحدا، وحكومة واحدة، وجيشا واحدا، وشرطة واحدة، وبضعة حرامية ولصوص. أما لدينا، في وطن القانون والشريعة والشراكة الوطنية المقدسة، فمئات القادة والرؤساء، وعشرات المليشيات، ومئات الآلاف من الحرامية واللصوص. ومن طبيعة الأشياء، في حال كحالنا، أن يصبح التحاور بين أباطرة العراق العربي الديمقراطي الجديد بلغة المفخخات والملفات، وبتلفيق التهم والجرائم والمحرمات.
في حالة واحدة فقط يُصبح من واجبنا شتمُ الكورد وتصديق السياسي الملهم والمفكر العبقري سامي العسكري الذي اتهم الزعامات الكردية بأنها (تلعب على موضوع الخلافات الشيعية السنية)، لو كان الوطن الذي يتحدث عنه وطنا آمنا مستقرا مزدهرا خاليا من الرشوة والفساد والطائفية وتزوير الشهادات، ولا يتآمر رئيس وزرائه لتسقيط خصومه بوسائل شريفة وغير شريفة، ولا يسعى لتهميش مدن وطوائف وقوميات، ولا يحتكر الثروة والقوة وصياغة المصير، ولا يطلق أيدي أبنائه وأصهاره وأقربائه ومحازبيه في أعناق الناس وأرزاقهم وكراماتهم دون حساب ولا كتاب، ولا يخترع المبررات والمسوغات لبسط يديه، وحده، على مؤسسات الدولة، واحدة بعد أخرى، ليصبح الزعيم الأوحد، والقائد الضرورة الجديد.
نعم كنا سنصدق سامي العسكري لو كان الوطن محترما وعاقلا وعادلا يحكمه أبناؤه المتعلمون المتنورون أصحاب الخبرة والكفاءة والعدل والنزاهة، من أية طائفة كانوا، ومن أية قومية، ومن أي دين.
ولكن الوطن الذي يعبث به وبأهله جهلة ٌأميون، وطائفيون متخلفون، وجياع سلطة وثروة، ومتعطشون للثأر والانتقام، ويتربص فيه الكبير بالكبير، والكبير بالصغير، والصغير بالصغير، والشيعي بالشيعي، والشيعي بالسني، والسني بالشيعي، والسني بالسني، والمسلم بالمسيحي، وتسيل دماء أبنائه الأبرياء كل يوم وكل ساعة، في الساحات والمدارس والأسواق والمساجد والكنائس والحسينيات والمستشفيات، إما بتدبير كتائب السيد الرئيس، أو بمفخخات حلفائه أو خصومه الألداء، ولا همَّ لقادته سوى تأجيج الأحقاد والعداوات الطائفية والدينية والقومية، واغتيال المعارضين، واكتناز المليارات المسروقة وليس الملايين، ليس وطنا، بل هو خرابة من خرائب الدنيا السبع.
وفي وطن كهذا لا يبقى علينا سوى تهنئة الكورد على انسحابهم منا، وبُعدهم عنا، وتركنا نتخبط وحدنا في المكائد والمؤامرات والمتاهات والمصائب والنكبات.
وأخيرا، فإن أصغر جريمة اختلاس أو اغتيال أو تزوير أو تخريب من الجرائم التي صار حدوثها في العراق العربي الديمقراطي (الجديد) أمرا اعتيادا لا غرابة فيه ولا غضاضة لو حدثت في كردستان العراق لقامت لها الدنيا الكوردية كلها ولم تقعد. والأمثلة أكثر من أن تحصى وأن تعد. فمتى تتقون؟ ومتى تعدلون؟