يعتبر كتاب (نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق) من الكتب القيّمة جدا والثرية النادرة لمؤلّفِهِ يوسف رزق الله غنيمة (1885 - 1950) وهو من علماء اللاهوت المسيحيين الكلدانيي الكاثوليك في بغداد. غنيمة هو السياسي والاديب والمؤرخ والصحفي وكان له دورمهم في الدراسة والتحقيق العلمي، واعتبر مرجعا علميا من مراجع اللغة العربية في محافل بغداد الثقافية، واستلم غنيمة مناصب وزارية كثيرة في الدولة العراقية بالعهد الملكي، ونال ثقة واحتراما كبيرين.

وقد أجاد اللغات العربية والفرنسية والانكليزية وشيئا من التركية والعبرية وأجاد اللغة السيريانية الكلدانية، واسس سنة 1919 مع فريق من المعنين بالثقافة (مكتبة السلام) التي كانت نواة للمكتبة الوطنية حاليا.انتخب عضوا في مجلس ادارة لواء بغداد في (شباط1922 ) وعين محاضرا لتدريس تاريخ المدن العراقية في مدرسة المعلمين العالية في (كانون الاول 1923) وانتخب نائبا في المجلس التاسيسي عام 1924 وكان مقررا للجنة تدقيق لائحة القانون الاساسي. كما انتخب نائبا عن لواء بغداد سنة 1925 واعيد انتخابه سنة 1928 ثم انتخب للمرة الثالثة سنة 1934.

اشترك في تاسيس الحزب الحر العراقي سنة 1933 وانتمى الى حزب التقدم ثم ساهم في تاسيس حزب الاخاء الوطني المعرض لمعهدة 1930.
اما في الجانب الصحفي فقد انشاء سنة 1909 بالاشتراك مع داود صليوا جريدة (صدى بابل) واصدر في 3 اذار 1925 و(جريدة السياسة) الى 3 تموز 1925 ثم اعاد اصدارها بعد تعطيل جريدة (نداء الشعب) لتكون لسان حال حزب الاخاء الوطني في (30 كانون الثاني ) ثم عطلتها الحكومة في (24 اذار 1931). وهكذا أصبح وزيرا للمالية في وزارة عبد المحسن السعدون عام 1928 ووزارة توفيق السويدي الاولى عام (1929) ووزارة علي جودت الايوبي الاولى عام (1934) ووزارة جميل المدفعي الثالثة عام (1935) ووزارة ارشد العمري الاولى عام (1946) ووزارة صالح جبر عام (1947) كما اصبح وزيرا حمدي الباجي الثانية عام (1944).
عين مديرا عاما للوراردات في (كانون الاول 1932) وللمالية في حزيران (1934) وللمالية في حزيران (1935) وللمصرف الزراعي والصناعي العراقي وكالة ورئيسا لمجلس ادارته في (اذار 1936) ثم اصالة في (كانون الاول 1936) وللاثار القديمة عام (1941) وللتموين (1944).

اشترك في 20 ايلول 1928 في اللجنة الوزارية لمفاوضة الانكليز لتعديل الاتفاقيتين المالية والعسكرية وعين في 15 تشرين الاول 1935 وفي لجنة لائحة الاتفاقية انقل ملكية السكسك الحديد العراقية من بريطانيا والى العراق ومنح وسام الرافدين من الدرجة الثانية من النوع المدني عام (1934).
يقدم المسيحى كتابه عن يهود العراق وفاءا لهم ولتاريخهم الحافل بالأمجاد والعظمة وردا للجميل كما يقول. وهى تمثل ثقافة المحبة والتعايش السلمى البناء فى انفتاح الأديان على بعضها البعض فى قواسمها المشتركة والإنسانية والحب والإحترام فالأديان التى تجمع ولا تفرّق وتقارب ولاتباعد وتزرع المحبة والوئام لا الكراهة والإنتقام.

قال أنور شاؤول
إن كنت من موسى قبست عقيدتى فأنا المقيم بظل محمد
وسماحة الإسلام كانت موئلى وبلاغة القرآن كانت موردى
سأظل ذياك السموأل فى الوفا أسعدت فى بغداد أم لم أسعد

قال الشاعر جميل صدقى الزهاوى
عاش النصارى واليهود بتبعة والمسلمون جميعهم إخوانا

وقال الشاعر معروف الرصافى
وهل هم فى الديانة من خلاف نصارى أو يهود ومسلمونا

يبحث هذا الكتاب الرائع (نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق ) بحثا معمقا في تاريخ يهود العراق منذ نشأتهم فيه وحتى عام 1924 م مستعرضا اوضاعهم واحوالهم في كل العهود التي توالت عليهم من بابلي واشوري ومآذي وفارسي ومغولي وتتاري وعثماني، ثم يبحث بشئ من الاسهاب في التوراة واللغة العبرية وآدابها.

استهل المؤلف كتابه ببحث مسهب في التوراة والعراق ثم افرد فصلا مطولا عن تاريخ اليهود في عهد العرب ثم اتى على اخبارهم في عهد المغول والتتر ثم عقد فصلا عن تاريخهم في عهد الاتراك من زمان السلطان سليمان القانوني وحتى انسحابهم من العراق فكتب بالتفصيل عن مشاهيرهم واحوالهم التي تراوحت بين رغد العيش الذي تمتعوا به وبين الضيق والاذى الذي لحقهم في عهد الولاة العثمانيين المختلفين، وفي هذا الفصل ذكر (فرمان) الاصلاحات التي اصدرها السلطان عبد الحميد سنة 1856 م وذكر ممثل اليهود في مجلس المبعوثين وتأسيس مدرسة الاتحاد والمدارس والمستشفيات التي شيدها ابناء الطائفة، ثم تناول اخبارهم في عهد الاحتلال والحكومة العربية العراقية وابرز حدثين مهمين، الاول، هو تقلد ساسون حسقيل وزارة المالية، ويذكر دوره المهم والرائد والكبير فى الحفاظ على المال العراقى وقدرته على تطوير الإقتصاد ومفاوضاته مع البريطانيين بقوة من أجل العراق. يعتبر ساسون أبرز وأهم وزير مالية فى القرن العشرين كما يقول المؤلف.

رثاه الشاعر معروف الرصافى قائلا
ألا لاتقل قد مات ساسون فقل تغور من أفق المكارم كوكب
فقدنا به شيخ البرلمان به ليله الداجى إذا قام يخطب

وفى عام 1932 م كان إبراهيم الكبير أول من وضع النقود العراقية وهو يهودى عراقى خبير وعظيم.
وشخصيات يهودية عراقية أخرى كثيرة جدا ومنها من ساهم مع المسلمين فى مؤسساتهم الخيرية وهنا يبرز مناحيم صالح دانييل فقد أنشأ من ماله الخاص (الميتم الإسلامى)... وكان لهم دور واضح فى النشاطات الإجتماعية والثقافية الإسلامية وأدار اليهود أول بنك عراقى ودورهم فى عجلة الإقتصاد كان باهرا ومتميزا.
الثاني، حفلة اليهود للامير والملك فيصل وخطبته عن المساواة بين العراقيين على مختلف طوائفهم ومذاهبهم.
ذكر المؤلف استقبال اليهود وترحيبهم بالخلافة الإسلامية بل ونصرتها فى مختلف مرافقها حتى نزاعاتها مع الروم والخصوم. خصوصا فى زمن الإمام على بن أبى طالب واتخاذه مستشارا يهوديا وحارسا يهوديا ومدونا يهوديا بل ورسولا يهوديا إلى الخوارج قبيل معركة النهروان المشهورة وقد أعجب اليهود كثيرا بشخصية على وعدالته ومساواته بين الناس بلا تمييز وبلاغته وزهده ووقوفه أمام قاضيه فى دعوى عليه رافضا تكنيته (ذكر الكنية نوع من المديح) دون خصمه (بالإسم دون الكنية) حيث أراد القضاء عادلا نزيها حتى غالى البعض فيه كعبد الله بن سبأ الزعيم الذى كان له دور بارز فى مختلف الأحداث السياسية والإجتماعية المتنوعة كما أقر فقهاء الشيعة والسنة القدماء رغم إنكار بعض المتأخرين لأسباب معهودة فى شنشنة أعرفها من أخزم.
وخصص الكاتب الجزء الاخير من الكتاب لتدوين تاريخ المزارات اليهودية في بلاد الرافدين ثم الحقه بالزيادات والايضاحات.
لقد مدحت الكتاب أمهات الجرائد والمجلات منها جريدة العراق فى عددها 1119 بتاريخ 17/01/1924 حيث ذكرت.

يعد كتاب نزهة المشتاق هو السفر الأول فى بابه وهو حافل بالفوائد التى لايعثر عليها المرء فى غير هذا الكتاب إعتمد واضعه فى تأليفه على جماعة من ثقاة الرواة والمؤرخيم من عرب وإفرنج) كما قال بعضها (وقد عرف قراؤنا الكرام مؤلف هذا الكتاب بما نشره من مقالات فريدة فى المشرق وهو يتحفنا بما هو أغزر مادة وأجدى نفعا نريد به كتاب (نزهة المشتاق فى تاريخ يهود العراق) فإنه أودعه من المعلومات ما لاتجده إلا بشقّ الأنفس فى تأليف أهل زماننا فروى ما أمكنه من أخبارهم وآدابهم وأخلاقهم ومعاملاتهم التجارية والصناعية منذ أولظهورهم إلى يومنا هذا...)، كما كتبت عنه مسهبا مجلة المجمع العلمى العربى بدمشق ومجلة المقتطف والهلال والعرفان والكلية وغيرها.
من المهم التمييز بين الصهيونية وبين اليهود خصوصا العراقيين الذين رفضوا الصهيونية وهم يعشقون العراق وخدموه بتاريخ ملئ بالفخر والعزة ورفض اليهود العراقيين المجئ إلى إسرائيل وكان إخراجهم وإسقاط الجنسية عنهم قد جعل العراق يخسر رموز وطنية رائعة متميزة.
واخيرا ولمتابعة تاريخ اليهود في العراق منذ تاسيس الدولة العراقية وحتى يومنا الحاضر اضيف على الكتاب ملحق هامّ وترجمة مختصرة عن حياة المؤلف والموضوع بقلم المؤرخ الموسوعى (مير بصري) بإفادات علمية مختلفة متنوعة.
لذلك ولغيره فضّل الله بنى إسرائيل على العالمين كما جاء عدة مرات فى القرآن الكريم منها (ولقد آتينا بنى إسرائيل الكتاب والحكمة والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على العالمين) سورة المجادلة- الآية 16 كما جاءت عشرات الآيات متحدة عنهم وعن موسى وعن التوراة.
ولايفوتنى أن أذكر كتابين رائدين
(أعلام اليهود فى العراق الحديث) للأديب الكبير والمؤرخ الإقتصادى اليهودى العراقى مير بصرى حيث ذكر أكثر من مائة شخصية يهودية لها دورها العراقى الرائد فى مختلف المجالات الفكرية والأدبية والإقتصادية والسياسية والإجتماعية والفنية والصحفية...، والكتاب الآخر (تاريخ يهود العراق) للكاتب مازن لطيف وقد جمع تسعا وأربعين مقالة وفيها تاريخهم وشخصياتهم مع أدوارها فى العراق الحديث

وعندما نأتى إلى تاريخ العراق فلايمكن إلا أن نرى الدور البارز المتميز والكبير فى بنائهم الدولة ومؤسساتها المختلفة وقدرتهم الإقتصادية والإدارية والإجتماعية ومن الواضح فى التاريخ دورهم فى بناء بغداد حتى يختارها أبو جعفر المنصور مركزا للخلافة حيث رجّحها على الشام عاصمة الخلافة الأموية، وفى تلك الحقية العباسية وما يسمى ب (العصر الذهبى) فى تلاقح الأفكار وتنوع الأديان والمذاهب والترجمة والأدب والفكر يبرز دور يهود بغداد فى مختلف المرافق وعلى أعلى الأصعدة والميادين حيث كانت لهم أكبر مدرستين لتخريج أكبر الحاخامات فى العالم وكانت بغداد تعتبر المرجع الفكرى والفهى للإفتاء اليهودى فى العالم ولذلك سمى فى اللغة العبرية ما ترجمته بالعصر الذهبى، للتسامح والتعايش والتنوع.