ربما كان من المهم على النخب السودانية أن تفترض هذا التساؤل ndash; على ضوء ما يحدث في السودان الآن - التالي: هل السودان اليوم يعيش تحولات طارئة وعرضية، أم تحولات بنيوية تهدد وجود السودان ككيان أصلا، بعدما انقسم إلى سودانين؟ وإذا كان الظن الراجح هو التساؤل الثاني؛ فهل ستكون استجابة النخب السودانية لمقاربة هذه المعضلة ببيانات سياسية أم بتأملات تحفر أفكارها في عصب الأسئلة وتجترح إجابات وآراء وأفكارا معرفية، لا آيدلوجية؟
وفي أغلب الظن أن هذه الأفكار ستضع الطبقة السياسية بجميع أطيافها في موقع إدانة أخلاقية بامتياز. ذلك أن ما يحدث في السودان الآن هو في الأصل نتيجة لتفاعلات داخلية كانت تعتمل على نحو مسكوت عنه من ناحية، ونتيجة أيضا لتحولات اجتاحت المنطقة العربية بفعل انهيار نظام القطبين بنهاية الحرب الباردة التي تزامنت نهايتها تزامنا بائسا مع انقلاب نظام الانقاذ في العام 89، من ناحية أخرى.
وبرغم الخراب والحرائق التي نراها اليوم إلا أن الحل العميق لها ndash; للأسف ndash; يقتضي طرح أسئلة أنطلوجية (كيانية) في النظر إلى هذا الواقع المركب وصولا إلى تشكيلاته الأولى وما كانت تنطوي عليه من بذور التناقضات. وبالتالي ستكون أفكار المثقف التي تحفر عميقا في سبر المشكلات آخر ما ينتبه له السياسي. فالمثقف هو في الأصل كائن هامشي ndash; لا بالمعنى السلبي - وإنما بمعني أن الإصغاء لأفكاره يحتاج زمنا طويلا ـ بحسب رولان بارت ــ حين قال: (إن دور المثقف: أن يتحمل هامشيته). لكن هذا بطبيعة الحال لا يمنع المثقف من الانخراط في الحياة السياسية، ولا حتى في التنظيم السياسي، بشرط أن يفرق ذلك المثقف تفريقا واعيا بين دوره كمثقف معني بإنتاج الأفكار لوطنه وشعبه، وبين انتماءه السياسي.
والحقيقة أن هذه المهمة في حياتنا السياسوية العربية أشبه بمهمة البهلوان، أي تلك القدرة على القفز من فوق المطبات والعوائق دون الوقوع فيها؛ فإذا كان المثقف الأوربي قد أنتج صيرورة لحياة سياسية سوية، بحيث سمحت له تلك التحولات العميقة في ممارسة السياسة كعلم وبنية تحتية؛ القدرة على الانتماء للتنظيم، وإنتاج الأفكار في نفس الوقت، فإن المثقف السوداني للأسف لم يحقق هذا الفرز. أي أن الواقع السياسوي الذي يحتاج إلى بنية تحتية غير ناجزة ـ كان على المثقف إنجازها أولا ـ وضعه أمام مهمة ذات طابع استراتيجي قد لا تسمح له بالانخراط في التشكيلات الحزبية التي تمارس الإقطاع السياسي.
وهذا بالتالي سيحيلنا إلى ظاهرة الاستقطاب التي شكلت انسدادا نظريا أمام رؤية وطنية للواقع الموضوعي.؛ فذلك الاستقطاب الذي ما رسته النخب السياسية والفكرية بكل أطيافها اليسارية والإسلامية والقومية والأفريقية، كان ينطوي على بنية آيدلوجية إقصائية.
إذ لم تكن أحلام الإسلامويين ممكنة التحقق دون الإنخراط في الحداثة ومعرفة شروط العالم الحديث، وإدراك ماتختزنه فكرة السودانوية كنمط للعيش المشترك. ولذلك عندما حاولوا تطبيق أفكارهم بمعزل عن تلك المعطيات كانت النتيجة كارثية كما نراها اليوم.
كذلك مارس اليسار السوداني (الماركسي) إقصاء ً آيدلوجيا إذ لم يكن يهجس بالإسلام الذي هو عميق الجذور في نمط الحياة السودانية، الأمر الذي يحيلنا إلى غياب قراءة وطنية مفترضة .
ذلك أن ما تفترضه القراءة الموضوعية للواقع السوداني كان لابد أن يستصحب فهما للدين والتراث السوداني ضمن قراءة تحترم النتائج المعرفية للأبحاث النزيهة للإسلام وخطابه ونصوصه، من أجل إدراج مسألة الإصلاح الديني في عمل عام يحد من التحولات الكارثية التي صاحبت صعود الإسلام السياسي وأدت إلى انقلاب الانقاذ في العام 1989م.
بمعنى آخر أن خطاب الإسلامويين كان خطابا طهوريا متعاليا، فيما كان خطاب الماركسيين خطابا منفعلا بأطروحات مؤدلجة ومشدودة إلى تنظيرات الاستقطاب في الحرب الباردة، أكثر من الالتفات إلى البنية الداخلية والعميقة للمجتمع السوداني والتي كانت تنطوي على نزعات تقليدية كامنة ومتصلة برؤية أوتقراطية للدين والقبيلة والطائفة. و ما ظهر في النهاية من هذه النزعات المتخلفة للطائفية والقبلية والأصولية اليوم، كان ضمن الآثار الكارثية لممارسات الإنقاذ وتخريبها لبنية الدولة أو بالأحرى صورتها الهشة.
كذلك بانهيار عهد الاستقطاب ونهاية الحرب الباردة، وما كان يوفره ذلك من حد أدنى مكَّن من مد ظل الدولة ورعايتها على المجتمع آنذاك، بسبب دعم القطبين، من ناحية، وعطفا على ما خلفه الاستعمار من بنيات مؤسسية للدولة التي بناها على صورته من ناحية ثانية، تكشف لنا تماما المأزق الحقيقي، بحيث أن ما بدا لنا واقعا طبيعيا في تلك البحبوحة من العيش والأمن التي صاحبت عقود ما بعد الاستقلال؛ كان في الحقيقة واقعا هشا تداعي بزوال الحرب الباردة فبرزت، مرة أخرى، البنيات التقليدية الأوتوقراطية للدين والقبيلة والطائفة لتحل محل تلك الحياة الوديعة.
بيد أن والكارثة الحقيقية كانت في ذلك التزامن البائس بين انقلاب الإنقاذ ونهاية الحرب الباردة في العام 1989م. تلك الحرب التي كشفت عن حاجتنا الحقيقية إلى المعرفة بدلا من الآيدلوجيا، وإلى إعادة تعريف معنى الطبقة الوسطى، وتعريف مفهوم الدولة، وبالجملة إلى إعادة التساؤل حول ما إذا كان السودان الذي عرفناه قبل انقلاب (الإنقاذ) ونهاية الحرب الباردة ينطوي على معان حقيقية للحداثة والدولة والمواطنة والديمقراطية، أم كان تركيبا هشا ً منعت من تداعياته وبروز آفاته القبلية والطائفية والإسلاموية عقود عصر الاستقطاب؟
لقد اكتشفنا فجأة أننا مجتمع أوتوقراطي متخلف وغير حديث، في حين لم تكن هناك مفاجأة بقدر ما كان هناك قصورا في إدراكنا المعرفي والحقيقي لمعنى الحداثة والديمقراطية والمواطنة. بالإضافة إلى حاجتنا لثقافة معرفية نقدية تنزع وتفكك كل تلك الآفات الأوتوقراطية عن مجتمعنا عبر الإبداع والإعلام والتعليم وغير ذلك. وهذا ما أكتشفناه مؤخرا للأسف.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات