منذ عشر سنوات، رحل عنا الأخ والصديق الروائي الأردني الفذ (مؤنس الرزاز 1951-2002) الذي كان بمثابة غارسيا ماركيز الأردن، والذي كتب الى جانب الروائي الراحل غالب هلسا، حياة الأردنيين، بشقائهم، وفقرهم، وتعاستهم، وحزنهم، ونضالهم، ضد الفساد، والجهل، والتبعية، وعبادة الفرد الحاكم، عبادة لا يصل اليها في بعض الأحيان خالق هذا الكون. فيمكن لبعضهم أن يكفر بالله ولا يمكن له أن يكفر بحاكم. ومؤنس الرزاز كان كوالده المناضل والمفكر السياسي الفذ (منيف الرزاز1919-1984) الذي قتله صدام حسين في بغداد، وكتب عن هذه الجريمة الشنيعة مؤنس الرزاز في روايته ( اعترافات كاتم صوت). ولكن أجهزة القمع الأردنية، كانت قد قمعت صوته وكتمته، كما قمعت من قبل صوت والده العظيم (منيف الرزاز)، وقمعته.
وشكراً لـ quot;فرقة جذورquot; الفنية بقيادة الفنان والمحلل السياسي عبد الوهاب كيالي، ولأسرة مؤنس الرزاز، التي ستقيم احتفالية فنية وثقافية يوم 27/2/2012 في عمان(جاليريا رأس العين) بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيل مؤنس الرزاز، ستتضمن معرض للوحات الفنية، والرسائل الشخصية، وقراءات لمذكرات ورسائل غير منشورة، وعرض فيلم قصير، بالاضافة الى اطلاق موقع العائلة الالكتروني.

الانظمة وأجهزة القمع
لقد اعترف منيف الرزاز بأن quot;لا حكم ثورياً يمكن أن يستغني عن سياسة وأجهزة القمع، لا سيما إذا كان هذا الحكم حديث العهد بالثورة ومعرضاً للتآمر من عدة جهات. ولكن ثمة فرق كبير بين أن يكون للحكم أجهزة قمع، وبين أن تكون أجهزة الحكم هي القمع كما هو الحال الآن في الأردن، وسوريا، والعراق واليمن وغيرها من الدول. والحكم الجماهيري كلما احتاج الى مزيد من القمع لأعداء الثورة الذين يتآمرون عليه، منح الجماهير مزيداً من الحرية، ومزيداً من الانفتاح.quot; إلا أن أنظمة الحكم في الأردن، وسوريا، والعراق، واليمن، جعلت من أجهزة القمع هي الحكم. فلم يعد أحد يشغل منصباً إلا برضا وموافقة هذه الأجهزة. ولا يغادر البلاد أو يعود اليها إلا بعد موافقة هذه الأجهزة. وكشفت بعض المصادر الأردنية الآن، أن أجهزة القمع كانت تدفع رواتب وأعطيات لبعض الإعلاميين الأردنيين. وما قرأناه عن أعطيات مدير المخابرات السابق (محمد الذهبي) لبعض الإعلاميين الأردنيين، يزكم أنوف الأحرار برائحته الكريهة، ويستطيب لها العبيد، كما قلنا في مقالنا هنا في quot;إيلافquot; (روائح كريهة تزكم أنوف الأحرار، ويستطيب لها العبيد، 19/2/2012) وكما قرأنا من ردود كثير من العبيد الذين استطابوا هذه الروائح الكريهة (إقرأ مقال د. محمد جميعان في quot;القدس العربيquot;، 22/2/2012- quot;ظاهرة الرحمة بالفاسدين في الأردنquot;.) لنعرف مدى استطابة العبيد لمثل هذه الروائح الكريهة، التي تنبعث من أعلى هرم السلطة الأردنية، ومدى دفاعهم عن الفساد والفاسدين في الدوحة المقدسة، كأبقار الهنود المقدسة!

الدكاريكاتورية في متاهتها!
كنا قد وصفنا في عام 1992 في كتابنا quot;مباهج الحرية في الرواية العربيةquot; مؤنس الرزاز، بأنه كان الروائي الذي حارب الدكاريكاتورية المضحكة. والدكاريكاتورية المضحكة والممسخرة يمكن أن تكون ملكية، كما هو الحال في الأردن، ويمكن أن تكون جمهورية كما كان الحال في العراق قبل 2003، ويمكن أن تكون جمهورية ndash; ملكية وراثية أي quot;جملكيةquot; كما هو الحال في سوريا، واليمن، ومصر، وغيرها، من بلدان العالم العربي المنكوب بمثل هذه الأنظمة.
والدكاريكاتورية، خليط من الدكتاتورية والكاريكاتورية، التي تثير السخرية والمرارة في الوقت نفسه، لأنها لا تترك وراءها غير المصائب والنكبات.
أما مؤنس الرزاز فكما وصفناه في كتابنا quot;مباهج الحرية في الرواية العربيةquot; كان لا يجيد فناً غير الفن السياسي، حيث حصر تجربته في هذا المجال. وقد استطاع أن يوازن بين السياسي والفني في رواياته موازنة دقيقة. فكانت رواياته بعيدة عن الخطابية، واللغة الإخبارية المباشرة، التي ابتليت بدائها بعض الرويات العربية السياسية. فأصبحنا لا نقرأ في هذه الروايات السياسية غير منشورات سياسية، أو بيانات إعلامية وإيديولوجية. ولكن مؤنس الرزاز كان يكتب فناً روائياً أولاً، ثم يُشكِّله ويُحلّيه بالسياسة. فكان الفن هو الأساس في رواياته.


أسباب معرفة الرزاز بالدكاريكاتورية
لماذا استطاع مؤنس الرزاز أن يفهم ويدرك الدكاريكاتورية العربية أكثر من غيره من الروائيين المعاصرين له، والسابقين، واللاحقين؟
هناك عدة أسباب منها:
1-القراءة المستمرة للتاريخ العربي، وتأمله لطبيعة الحاكمية العربية ،منذ عهد معاوية بن أبي سفيان حتى الآن.
2- اطلاعه المباشر على أسرار أكبر تنظيم حزبي سياسي قومي في العالم العربي (حزب البعث) والمآسي التي لحقت بهذا التنظيم، نتيجة لسيطرة واستغلال الدكاريكاتورية العربية على هذا التنظيم في تحقيق أغراضها السياسية والمالية.
3-عمله في الكفاح المسلح في لبنان فترة من الزمن، وحمله للبندقية، وإطلاعه على أسرار الصراع السياسي القائم بين مختلف تنظيمات الكفاح المسلح الفلسطيني.
4- اقامته فترة من الزمن في أمريكا، ودراسته هناك، واطلاعه على تاريخ الغرب ومسيرة الديمقراطية الغربية، مما عزز فهمه وإدراكه لطبيعة الدكاريكاتورية.

الذئاب والأرانب وما بينهما
منذ عام 1950 إلى نهاية 2010 وقبل الثورة التونسية، لم تجرِ محاكمة شعبية أو ثورة شعبية تطيح بواحد من عشرات الدكاريكاتوريين الذين تعاقبوا على حكم العالم العربي. وما تم هو أن يقوم دكاريكاتور بالاطاحة بدكاريكاتور آخر، كما قال الرزاز في روايته quot;متاهة الأعرابquot; التي وصفت الدكاريكاتوريين بـــ quot;الذيابquot;، وقالت:
quot;إذا مات منا ذيب قامت ذياب.quot;
وقال الرزاز ذلك، بعد أن أيقن أن العالم العربي منذ مطلع القرن الماضي وحتى رحيله 2002، لم يتمكن من إقامة حكم سياسي ديمقراطي، خالٍ من quot;الذيبةquot; الدكاريكاتورية، نتيجة لسيطرة quot;الأرنبةquot; على الشعب العربي الناتجة عن الجهل، والتخلف، والفقر، والموروث السلبي.
فماذا لو عاش الرزاز بيننا حتى الآن، وشاهد الثورات في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وسوريا، والبحرين، التي اقتعلت من بعضها الدكاريكاتوريين، ويحاول الباقي منها اقتلاع هذه الدكاريكاتورية.
هل كان سيطلق على الشعب العربي صفة quot;الأسودquot; بدل صفة quot;الأرانبquot; التي أطلقها عليه قبل رحيله 2002؟
وهل سيتخلى عن شعارات الشارع العربي القديمة:
- quot;بطيخ يكسّر بعضه..quot;
- quot;يصطفلوا..quot;
- quot;يا عمي: كف ما بيلاكم مخرز..quot;
- quot;لا تحملوا السلم بالعرض..quot;
- quot;لا تؤذِّنوا في مالطا..quot;
ويبدو أن حالة اليأس والاحباط الشديد التي اجتاحت مؤنس الرزاز قبل 2002، واجتاحت الكثير من أمثاله، هي التي دفعته لترديد الشعارات السابقة في رواياته. ولو عاش مؤنس الرزاز بيننا حتى الآن لغيّر الكثير من آرائه وأفكاره السياسية خاصةً.
السلام عليكم.