لا أظن أن من حقي أن أحدث القارئ عن مشاعري، فقط له علي أن أشاركه أفكاري وأتشارك معه في أفكاره، لكن ماذا أفعل والحزن يغمرني، فيما أستشعر المهانة لبلادي ولثورتها ولشعبها، وقد أوصلتنا قياداتنا الرشيدة التي تجثم على صدورنا لا نعلم حقيقة إلى متى، إلى أن نصير محل هزء وازدراء من المجتمع الدولي. . أتحدث عن قضية المنظمات الحقوقية الدولية العاملة بمصر!!
ما هذا الذي يفعله بنا السادة الكرام المهيمنين على أمورنا؟
ما هذه القضية التي اخترعوها اختراعاً، ليدخلوا في صدام مع قوى دولية لا قبل لنا بمواجهتها؟
أفهم أن نواجه قوى عظمى من أجل قضايا حقيقية تتعلق بمصير بلادنا ومصالحنا، ففي مثل هذه القضايا حتى لو لقينا الهزيمة فلن يكون هذا مدعاة للعار، بل بالعكس تدفعنا الهزيمة للمزيد من الإصرار على تحقيق مصالحنا، كما لا يكون من العار أن ننهزم أمام قوى أكبر منا.
لكن أن نخترع الصدام اختراعاً، لمجرد أن أحد العباقرة الذين يريدون إظهار الثورة المصرية الرائعة وكأنها مجرد مؤامرة غربية أو أمريكية، قرر اختراع قضية سميناها من قبيل الإثارة quot;قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدنيquot;، لتتم مداهمات واستدعاءات للتحقيق مع رموز المجتمع المدني، وتطال الغزوة منظمات عالمية تعمل في مصر في وضح النهار وتحت رقابة الأجهزة الأمنية منذ سنوات طويلة، ليتمخض جبل الدعاية المحمومة فيلد فأراً، هو توجيه اتهام العمل بدون ترخيص لمنظمات عالمية، وليس اتهاماً بتمويل ولا تجسس ولا مؤامرة لتقسيم مصر، ولا ما شابه من اتهامات وتخريفات يشوب لهولها الولدان كما يقولون!!. . هذا حقيقة لا أرى له تبريراً غير الحماقة
أفهم أن من يديرون أمورنا هم رجال العهد الذي جثم على صدورنا لستة عقود، وأن هؤلاء لا يريدون تصديق أن هذا العهد قد انتهى إلى غير رجعة، وأنهم قد تربوا واعتادوا مواجهة المشاكل بالتعمية والأكاذيب وتلفيق التهم والقضايا.
أفهم أيضاً أنهم غير قادرين على استيعاب أنهم لا يستطيعون الآن تلفيق التهم والقضايا بذات السهولة التي كانت تتم بها مثل هذه الحالات من قبل، كما أفهم عجزهم عن إدراك الواقع، والتسليم بأن الثورة قد انتصرت أو لابد أن تنتصر.
لكن هناك أمرين فقط لا أستطيع تفهمهما، وأتصور أن حدوثهما يشي بالحماقة بالدرجة الأولى، وليس بالغباء السياسي أو أي شيء آخر من هذا القبيل. . أولهما يتعلق بأساس الموضوع أو الباعث إليه، وهو محاولة إقناع الشعب المصري أن ثورته هي مجرد مؤامرة غربية، وأن الشباب المصري الذي خرج من البيوت والأسر المصرية هم مجرد عملاء مدفوعي الأجر من قبل أياد غربية أو أمريكية أو حتى قطرية.
قد تصلح هذه الدعاوى لترديدها في قنوات تليفزيونية فضائية رسمية وغير رسمية، لكي يحول المشاهدون أجهزتهم إلى قنوات أخرى تحترمهم، لكن أن يتصور عاقل أن الشعب المصري يمكن أن يقتنع بهذه الخزعبلات، مهما بلغت سذاجة البعض، أن يقتنع الشعب بأن كل هذه الملايين في كافة أنحاء البلاد كانت ألعوبة لتنفيذ مخططات أجنبية. . هذا بالتحديد ما لا أستطيع أن أتفهمه. . لا أستطيع تفهم ولا قبول أن يتواجد بين المهيمنين على أمور البلاد من على هذه الدرجة من الحماقة.
الأمر الثاني غير القابل للتصديق أو التفهم هو إقدام أحدهم في معرض التزييف والتلفيق لتشويه الثورة والثوار، أن quot;يأخذ في رجليهquot; منظمات عالمية ورجالها، كما لو كانت quot;هي فوضىquot;. . فحتى إيران الخميني عندما لعبت لعبة السفارة الأمريكية وأخذت الدبلوماسيين الأمريكيين رهائن، وهو عمل همجي مخالف لكل الأعراف الدولية، ومع ذلك نستطيع القول أنهم لعبوها quot;بمعلمةquot; إلى حد ما، فرغم وضوح قيام السلطات الرسمية الإيرانية بهذا الاحتجاز للرهائن، إلا أنه من الناحية الرسمية الشكلية على الأقل كان المنظر أن طلاباً إيرانيين هم من قاموا باحتجاز الرهائن، وهذا يحقق ولو شكلياً هدفين، أولهما ستر عورة النظام الإيراني ذاته في هذا العمل وإسناده إلى قوى شعبية، والهدف الثاني هو ترك مجال لخط الرجعة وحل المشكلة، بادعاء اقناع المختطفين أو إجبارهم على الإفراج عن الرهائن!!. . كانت مغامرة إيرانية همجية وجبانة بالتأكيد، لكن كان هنالك محاولة لحفظ ماء وجه الدولة والشعب الإيراني ولو أمام ذاته، وإن لم يكن هذا قد تحقق أمام العالم!!
حدث مثل هذا في مصر الثورة في حالة اقتحام السفارة الإسرائيلية، حيث تم نسبة الحادث إلى quot;اللهو الخفيquot; أو quot;البلطجيةquot;، رغم أننا جميعاً نعرف، وقبل أن نعرف نحن يعرف العالم كله مدى وحدود الترحيب والتشجيع الذي لاقاه إنزال العلم الإسرائيلي من فوق السفارة من قبل من يحمل مؤهلات quot;حرامي غسيلquot;، والشخصيات الرسمية وغير الرسمية التي تولت تكريمه، بما شجع على تكرار مهاجمة السفارة بصورة أكثر همجية. . نستطيع أن نقول على هذه الحالة أيضاً كما قلنا على حادث السفارة الأمريكية بإيران أنها quot;ملعوبةquot;، حتى لو كانت قذرة وهمجية!!
أما في المهزلة المصرية المصرية الأخيرة في قضية المنظمات الحقوقية، فقد تم تصدير القضاء المصري الذي نستند إليه ونعتز به جميعاً في الموضوع، وفي حين ظل الإعلام المصري المأساة يتحدث عن قضية تمويل أجنبي ومخططات وتجسس وما شابه، كان أمام القضاء قضية quot;إدارة منظمات بدون ترخيصquot;، وهي جريمة حقيقية وفقاً للقانون المصري، يتحتم على القضاء المصري الشريف إصدار حكم فيها وفقاً للقانون!!
تذكرت الأجهزة المصرية فجأة أن تلك المنظمات لم تستكمل تراخيصها، أو فلنقل أنها وجدت الظروف هي المناسبة لاستغلال ما كانت تصمت عليه من خطأ قانوني في وضع هذه المنظمات، وبدلاً من إصدار قرار قوي وشجاع بغلق هذه المنظمات لحين تمكنها من التوافق مع القانون المصري، وكان هذا الموقف سيدخل ضمن نطاق ما يعتبر quot;ممارسة الحقquot;، حتى لو كان quot;المراد به باطلquot; وهو إضعاف المجتمع المدني في مصر الثورة. . بدلاً من هذا، وربما لكي يُحدث المدبر للقضية كلها أكبر قدر من الإثارة، تم تحويل المنظمات ورجالها الأمريكيين إلى القضاء ومنعهم من السفر!!
لم نضطلع على حيثيات انسحاب هيئة المحكمة من القضية لاستشعارها الحرج كما أعلن، لكنني أخمن أن يكون قضاة مصر الشرفاء استشعروا الحرج إزاء القانون الذي يحتم إصدار أحكام إدانة على من quot;أدار مؤسسة بلا ترخيصquot;، وتصل عقوبتها إلى 3 سنوات سجن كما قيل، في حين كانت وزيرة الخارجية الأمريكية تعلن قرب التوصل إلى حل!!
الآن وقد خرج المتهمون من البلاد، بما يليق بهم من كرامة، ولا يليق بالشعب المصري من مهانة، ماذا نستطيع أن نستشعر غير المهانة؟!!
لماذا يا سادة أدخلتم مصر وشعبها وقضاتها في هذه القضية؟!!
هل بلغت بكم الحماقة إلى هذا الحد، وهل هان الشعب المصري والدولة المصرية بل وهانت أنفسكم عليكم إلى هذه الدرجة؟!!
مصر- الإسكندرية
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات