يبدو أن أسلوب نظام الخرطوم في استثمار الكراهية قد تجاوز بكثير تلك التصريحات التي يعرفها الجميع عن سياسيي الإنقاذ، فما فاضت به وساءل الإعلام من تعبيرات عنصرية تتناقض مع ما يدعيه النظام من الالتزام بمنهج الشريعة حتى أصبح الأمر مفضوحا، وبصورة أصبح معها الكثير منهم لا يكترث لذلك التناقض.
غير أن الأخطر من ذلك ما يقوم به خطيب مسجد الشهيد بالخرطوم : عبد الجليل الكاروري الذي تذاع خطبته مباشرة على الملايين منذ سنوات عبر قناة السودان الفضائية. فقد ظل هذا الرجل يمارس تضليلا تجاوز به حدود ما يفترضه مقام الخطبة الذي هو مقام له حرمته وما يقتضيه من تقدير. فمن أهم ميزات خطبة الجمعة أنها وقفة أسبوعية عامة للذكر والعظة من منبر ينبغي أن يكون أميناوحريصا على نزاهة العظة، وأمانة الكلمة، وتقدير قيمة المعنى الرمزي لطهارة النوايا في نصح المسلمين، بدلا من أن تكون دعاية مجانية للسياسات الحزبية.
وللأسف فإن الكاروري ظل باستمرار يستخدم هذا المنبر في تسويق الدعاية المغرضة لنظام المؤتمر الوطني، وإسقاط دلالات الآيات القرآنية عليه عبر تأويلات متعسفة للأحداث السياسية التي تجري في السودان. لا سيما في خطبته التي خصصها لأحداث هجليج وساق فيها إسقاطات ليوهم بها المصلين بأن بعض المعجزات الإلهية كانت نصرا للقوات المسلحة السودانية في معركة هجليج.
هذا النهج الذي ينتهجه الكاروري هو نهج تدليسي خطير لا يهدف إلى إخلاص العظة للمسلمين ونصحههم وتوجيههم إلى قيم القرآن والإسلام كما هو واجب كل خطيب على منبر الجمعة، بل يهدف إلى الانتصار لدعاية سياسية وأجندة حزبية هي بمثابة خيانة لمنبر رسول الله وحرمة تلك الشعيرة الإسلامية في خطبة الجمعة. وللأسف فإن تدليسه غالبا ما ينطلي على البسطاء وحتى على بعض المتعلمين، لأنه يُحكم التدليس في منهجه بطريقة ذكية.
الكاروري في العادة يقسم خطبته إلى خطبتين، خطبة دينية (الخطبة الأولى)، وخطبة دنيوية للتعليق السياسي عن أحوال حكومة الإنقاذ والدفاع عن (المشروع الحضاري) بطريقة تمثل إسقاطا للمفاهيم القرآنية والمبادئ النقية للإسلام على واقع نظام المؤتمر الوطني، وبصورة توحي للمتلقي الغافل كما لو كان ذلك النظام هو المثال الحقيقي لتطبيق الإسلام.
هذا الأسلوب الآيدلوجي الأجوف البعيد عن المعرفة والوعي الأمين لمفاهيم الإسلام يطعمه الكاروري بمعلومات علمية، وسياسية وفكرية معاصرة، ثم يتبرع أحيانا بتأويلات بعيدة عن معاني الإعجاز القرآني في حياة المسلمين، ويخلط كل ذلك بكلام عمومي عن قوة المسلمين لا سيما في السودان وعن المؤامرات التي تحاك للمشروع الحضاري الإسلامي في السودان. مستثمرا توظيف بعض المقولات لمفكرين وعلماء كبار وإسقاطها ـ كعادته ـ في الواقع السياسي السوداني، دون أن يتحرج من ذلك؟
والعجيب الغريب في كل ما يتحفنا به الكاروري في تعليقه السياسي من على منبر الجمعة، هو أنه يتقصد تضليل المصلين حين يسوق استشهاداته بطريقة تتذاكى على عقولهم دون أن ينتبه للتناقضات التي يقع فيها، وتهافت استشهاداته وأقواله التي يركبها بطريقة (بديعة) توهم المستمع والمشاهد بسعة إطلاع الشيخ وقدرته على فهم قضايا العالم المعاصر؟
ولتأكيد هذه الحقيقة سنقف على إحدى خطبه قبل سنوات مارس فيها تضليلا فاضحا حاول من خلاله الانتصار لموقف المؤتمر الوطني ضد الحركة الشعبية بطريقة فيها الكثير من الخبث والذكاء.
كانت خلفية الخطبة على الأزمة التي وقعت بين شريكي السلطة قبل الانفصال في شهر نوفمبر عام 2007، حينما قررت الحركة الشعبية تجميد عضويتها في الحكومة وسحب وزراءها للتعبير عن رفضها لبعض سياسات المؤتمر الوطني.
من بديع تخريجاته في تلك الخطبة : ما ساقه، تعليقا على الأزمة بين الحكومة والحركة الشعبية، ودعوة البعض إلى الانفصال المبكر.
هنا استشهد (شيخنا) بالعلامة والمؤرخ العربي الشهير (ابن خلدون) صاحب كتاب (المقدمة) في هذه القضية.
ولتبرير رأيه المغرض والمحرف، وصف الكاروري بأن علماء الاجتماع في العصر الحديث هم عالة على ابن خلدون (يعني أطفال صغار يعتمدون عليه في هذا العلم) ــ متناسيا أن علم الاجتماع في العصر الحديث تجاوز بن خلدون بمراحل ضوئية ــ فهو يسوق هذه الهالة عن ابن خلدون لخدمة مقدمته الفاسدة ــ كما يقول المناطقة ــ لكي يرتب عليها نتيجة فاسدة، من أجل تمرير آراءه العجيبة والملفقة. استشهد الكاروري بابن خلدون عن أزمة الحركة والحكومة ناقلا عنه هذه العبارة : (بلاد أفريقيا صعب حكمها فأهلها يتبعون كل ناعق) ثم نقل كلاما آخر عن ابن خلدون يمدح فيه أهل مصر لطاعتهم لحكامهم بخلاف أهل أفريقيا؟ ليوحي للمصلين أن المقصود من معنى (أهل أفريقيا) ـ التي ذكرها ابن خلدون ـ أنما هم الأفارقة الجنوبيون ومن ثم فالمعنى أن الجنوبيين (يقصد الحركة الشعبية) هم أصلا منذ قديم الزمان أتباع كل ناعق ولا فائدة من التحاور معهم (لاحظ النتيجة الفاسدة للمقدمة الفاسدة) وكل هذا التضليل نتيجة لتفسيره كلمة (أفريقيا) التي ذكرها ابن خلدون، تفسيرا ضالا ومغرضا. فابن خلدون لم يقصد من كلمة أفريقيا : القارة الأفريقية ولا أرض الجنوب، بل كان يقصد تحديدا بلاد تونس (دولة تونس) الآن، لأنها كانت تسمى أفريقية في ذلك الزمان؛ ولأن ابن خلدون هرب من تونس (أفريقية) نتيجة لصراع الولاة فيها واستقر بمصر؟!
أنظروا كيف يستخدم هذا الكاروري مقولات العلماء، ويحرفها عن معانيها، ليضلل بها المصلين، وليصف بها الجنوبيين كما لو كانوا رعاعا وهمجا يتبعون كل ناعق؟ وكل ذلك من أجل الانتصار لنظام المؤتمر الوطني، دون أي احترام لحرمة مقام الخطبة، ومنبر الرسول الكريم.
ثم لو افترضنا جدلا أن ابن خلدون يقصد بكلمة (أفريقية) القارة الأفريقية، فكيف يستقيم أن يستثني مصر من ذلك الوصف الذي وصف به بلاد أفريقيا؟ أليست مصر جزءا من أفريقيا؟.
هكذا يتذاكى الكاروري على المصلين وعلى مشاهدي الفضائية السودانية في كل أنحاء العالم بمثل هذه التحريفات المغرضة. وعليه كيف سيكون أثر هذا الكلام المغرض والمحرف على كل أولئك الذين جاءوا لأداء صلاة الجمعة من أجل الذكر والموعظة؟ أو أولئك الذين أحسنوا الظن بالشيخ لأنه خطيب جمعة جامعة؟
إن أسوء ما يمكن أن تنطوي عليه مثل هذه التحريفات والتضليلات هي الإساءة للإسلام الذي هو بريء من مثل أغراض هذه الخطب.
لكن من الذي يقنع الناس بفك الاقتران الشرطي المتوهم بين أمثال هؤلاء الشيوخ من على هذه المنابر، وبين شعيرة صلاة الجمعة في حد ذاتها؟
هكذا يمارس نظام المؤتمر الوطني عبر هذه الخطب تمرير الآيدلوجيا ليستولي على عقول البسطاء والأبرياء من أبناء الشعب السوداني وتضليلهم.
[email protected]
التعليقات