منذ تدوين الشرائع القديمة حفراً على (المسّلات) إلى كتابتها على صفائح البردى والجلود، وحتى عصر الطباعة الإلكترونية، والإنسان حريص على أن ما يكتب عبر هذه الوسائل، لا بد أن يكون ذا قيمة تميزه بخصائص معينة، لما يحتويه من مضامين هي في جوهرها إحتواء لكل نشاطات هذا الإنسان، النابعة من حاجاته الأساسية التي فرضت عليه هذا الإكتشاف (وسائل وأدوات الكتابة)، لأن حاجة الإنسان كانت دافعاً أساسياً لأن يكتشف الفينيقيون حروف الأبجدية، ويكتشف العراقيون اللغة المسمارية، ويتطور المصريون بالهيروغليفية..
وهنا يحق لنا أن نتسائل : أيفكر الإنسان عبر قرون من الزمان السالف لإستنباط وإبتداع هذه الوسائل.. لكي يسجل بها ما هو من سقط المتاع.. وهزيل الفكر.. أو سيء الطباع؟..
إن المنطق الطبيعي لتطور الأشياء يرفض هذه الفرضية، والمنطق العلمي يؤكد عكسها أيضاً، لأن مجرد إلقاء نظرة على محتوى ما هو محفور في هذه quot;المسّلات quot; وصفائح البردى والجلود والمنسوخات ndash; قبل إكتشاف الطباعة ndash; يعطينا الدليل الساطع على ذلك المستوى الرفيع، الذي دونته الأقوام المتعاقبة لمعتقداتها الروحية، وتعاليمها القانونية وخصائصها العلمية، ولمستوى أدبها الرفيع.
والإصرار على أن ما يُكتب ndash; بضم الياء ndash; يجب أن يخضع لمقاييس ومميزات لابد من توفرها فمن يَكتب ndash; بفتح الياء ndash; وهو إصرار قديم قدم تفكير الانسان في الكتابة وإكتشافه لأدواتها.
فإذا تجاوزنا تعاليم الحضارات السابقة وما دونته بهذا الصدد، كالحضارة الهندية والمصرية والعراقية، فلابد لنا من وقفة أمام الحضارة الأغريقية... ولنتجاوز قليلاً.. أيضاً بداياتها.. أي إبتداء من محاورات (سقراط) و(السفسطائيين) وما تلاهما إلى المرحلة (الأفلاطونية)، لنقف أمام مرحلة المعلم الأول (أرسطو) ولننظر في كتابه (فن الشعر) الذي يعد بحق دستوراً لمن فرضت الكلمة عليه نفسها، لتصبح مهنته، وليس العكس.
وحتى عندما بادت حضارة (الأغريق) وتلتها الحضارة (الرومانية)، وعلى وجه الخصوص في بدايتها ndash; يوم كان أثر الأدب الأغريقي مازال يسري في عروق أدبائها ومفكريها أمثال quot;سينكا quot;.. كان للكلمة إحترامها، ولم يكن يسمح لكائن من كان أن يكتب.
إلا أنه بعد مرور سنوات من بسط النفوذ الروماني، وبعد أن فقدت المعايير الأخلاقية في المجتمع الروماني، أصبحت الكتابة وقتذاك ndash; مهنة كل من quot; هب و دب quot;، حتى وصل الأمر إلى أن المسرح الروماني كان يقدم مسرحيات، ويمارس فيها الممثلون أعمالاً جنسية فوق خشبة المسرح!!
مما أدى في النهاية إلى سقوط الدولة الرومانية، بعد أن وصلت إلى هذا المستوى من الإنحطاط الخلقي.
من كل هذا يتضح أثر quot; الكلمة quot; في بناء المجتمعات حضارياً وفي تدميرها في نفس الوقت، وذلك بكل ما تحمله كلمة quot; حضارة quot; من معنى.
وعندما جاء الاسلام أفرزت مدرسته للبشرية، كوكبة ممن تملكوا ناصية البلاغة.. وإذا عرجنا على تاريخنا العربي، سواء قبل نزول القرآن أو بعده، وأمعنا النظر في ما كان يكتب ndash; بغض النظر عن أغراضه ndash; لوجدنا أن الكتابة كانت مقتصرة على الصفوة ممن يتميزون بالتعبير عن صدق مشاعرهم، وبالتجديد في إنتاجهم، وبخصوبة خيالهم.
هذا إلى جانب أن المقيم quot; المتلقي quot; أو quot; السامع quot; أو ما نسميه اليوم بالناقد، لم يكن ليرحم الإنتاج الهزيل، ولا يكتفي بنقده وإنما يقدم البديل الأفضل.
وتحضرني في هذا المقام حادثة ndash; روتها كتب السّير ndash; وقعت بين quot; حسان بن ثابت quot; و quot; النابغة الذبياني quot; يوم كانت تُنصب للنابغة خيمة في quot; سوق عكاظ quot; يجتمع إليه فيها الشعراء.. فدخل إليه quot; حسان quot; وكان عنده quot; الأعشى quot; و quot;الخنساء quot; التي كانت تنشد هذه الأبيات :
قذى بعينك، أم بالعين عوار أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدار
حتى انتهت إلى قولها :
وإن صخراً لتأتمٌّ الهداة به كأنه علم في رأسه نار
فقال لها quot; الذبياني quot;: لولا أن أبا بصير (الأعشى) أنشدني قبلك لقلت : أنك أشعر الناس.
وهنا تدّخل quot; حسان quot; فقال للنابغة: أنا والله، أشعر منك ومنها.
فرد الذبياني : أنشدني شعراً يثبت ما تقول.. فأنشد quot; حسان quot; هذه الأبيات:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابنى محرق فأكرم بنا خالا، وأكرم بنا ابنما
فقال له quot; الذبياني quot;: إنك يا quot;حسان quot; لشاعر، لولا أنك قلت (الجفنات) فقللت العدد، ولو قلت: (الجفان) وقلت (يلمعن في الضحى) ولو قلت (يبرقن بالدجى) لكان أبلغ في المديح، وقلت (يقطرن من نجدة دما) فدللت على قلة القتل.. ولو قلت: (يجرين) لكان أكثر لانصباب الدم، وفخرت بمن ولدت، ولم تفخر بمن ولدك.
هكذا كانوا يتعاملون مع الكلمة.. وقد زخرت الكتب بالمواصفات الواجب توافرها في كاتب (الكلمة).
يا قُراء إيلاف.. ويا كُتاب إيلاف.. إنني أسوق لكم ما سلف لأستصرخ ضمائركم لتلتفتوا إلى ما تكتبون عبر مشاركتكم والتي يفترض فيها أن تكون نبراساً مستمراً للتوهج الحضاري، في هذه الجريدة المتميزة، وليس (ناقوساً) يكاد يثقب (طبول) آذاننا من شدة نشاز (قرعه) - وخاصةً في مداخلات القُراء - فإيلاف بتجديداتها المستمرة تدعوكم الى أن تتجددوا معها في أساليبكم فيما تطرحون.
وهنيئاً لكم بإيلافكم المتجددة دائماً!!..