لقد أدركنا جميعا طيلة ما يقرب من نصف قرن في معظم بلدان الشرق الأوسط المبتلاة بالنظم الشمولية، أداء الإعلام الحكومي الموجه في كل قنواته ووسائله، واكتشفنا حينما زالت غشاوة الدكتاتورية وأسوارها الفولاذية بؤس ذلك النهج الأحادي المتخلف في وسائله وفلسفته القطيعية التي تشيع الاستكانة والانكسار، وتزرع مفاهيم الفردية المطلقة المتعلقة بسيادة القائد أو الحزب الذي ينقذ الأمة ويحقق كامل أهدافها، حتى تربت أجيال عديدة على ذلك النهج الذي تكلس في العقد التربوية والسلوكية للفرد بما فيه ذلك المنتفض أو المعارض لذلك النهج!؟

فقد أثبتت السنوات التسعة الماضية بعد سقوط هيكل النظام الدكتاتوري الإداري إن هوة كبيرة وبون شاسع ما يزال يمتد بين ذلك النظام ومعكوسه في التطبيق والسلوك، حيث ظهرت خلال السنوات الأخيرة بعد قيام حكومة منتخبة اثر أول انتخابات ديمقراطية جرت في البلاد بعد السقوط عام 2005م، أعراض قريبة جدا من السلوك الدكتاتوري خرجت من بواطنها في العقل المخفي أو الباطني لتتحول إلى تكثيف للسلطة والإعلام والسلوك بما يقترب كثيرا من اعرض أمراض الاستبداد والطغيان والتفرد؟

لقد انعكس ذلك تماما على أداء الإعلام البديل لقنوات النظام السابق المرئية والمسموعة والمكتوبة، حيث اتفق ( ضحايا ) النظام الشمولي على انجاز مؤسسة شبه حكومية تشبه إلى حد ما هيئة الإذاعة البريطانية، وترتبط بمجلس النواب ولا تمثل أو تدافع عن حزب ما أو كتلة برلمانية أو رئيس قائد سواء كان في الحكم أو خارجه، أغلبية كان أو أقلية، إذ يفترض من قانونها وفلسفة تأسيسها أنها ملك لكل الأهالي على اختلاف طبقاتهم وأعراقهم وقومياتهم وأديانهم وميولهم السياسية، وعلى ذلك كان يستوجب أن تكون قنوات هذه المؤسسة ناطقة بلغات أهل العراق كالعربية والكوردية والتركمانية والآشورية، وتمثل ثقافاتهم جميعا على حد سواء بصرف النظر عما يتمتعون به في مناطقهم من وسائل التعبير عن الرأي والثقافة والفلكلور بلغتهم الأم، إذ إن هذه الهيئة هيئة قومية تشمل كل الأمة العراقية بمختلف مكوناتها ويفترض أنها تعبر عنهم جميعا؟

ما حصل خلال السنوات الأخيرة وأزماتها بين الكتلة الحاكمة وهي دولة القانون وحزبها القائد ( حزب الدعوة ) من جهة وبين معظم الكتل الأخرى تقريبا، وبالذات مع الصدريين وكتلة العراقية المنافسة لها في الحكم ومع التحالف الكوردستاني والعديد من المستقلين والأحزاب الأخرى وخاصة الديمقراطيين والشيوعيين، أعطى صورة مغايرة تماما عما اتفق عليه، حيث بدأت عملية الاستحواذ على كثير من مفاصل هذه الهيئة وتفريغها من مضمونها ومحاولة احتواء معظم الهيئات المستقلة أو السيطرة عليها بمختلف الأساليب، ويظهر ذلك من خلال الأداء البائس للإعلام الحكومي منذ سنوات عديدة، وتحوله إلى بوق حكومي ليس إلا، وتقزيم دور الرأي الآخر بل وإبعاده قدر المستطاع أو تحجيمه تماما، إلى جانب استشراء الفساد المالي والإداري واستقطاب عناصر لا علاقة لها أبدا بهذه المهنة على خلفية المحسوبية والمنسوبية والمحاصصة بعيدا عن المهنية والكفاءة، حيث الفرق الشاسع بين ما يخصص لهذه الهيئة من أموال طائلة وبين أدائها نوعيا وكميا في معظم برامجها الموجهة إذاعيا أو تلفزيونيا أو صحفيا، مما تسبب في تقهقر هذا الإعلام ورداءة إنتاجه، وإحباط كبير لدى الرأي العام والأهالي عموما وبالذات لدى قطاع واسع من الإعلاميين والصحفيين والكتاب والمثقفين، الذين كانوا يأملون في تأسيس ما يمثلهم جميعا على اختلاف مشاربهم وأفكارهم وانتماءاتهم.


[email protected]