جاءت عملية الاغتيال الوحشي لثلاث ناشطات كرديات تركيات في قلب باريس صدمة مروعة للجالية الكردية بفرنسا وإحراجا كبيرا للسلطات الفرنسية أيضا، حيث أن مكان الجريمة في قلب باريس، وثمة مراقبة له.
إنه لمن السابق لأوانه تشخيص الطرف المجرم الملطخ اليدين بدم النساء الراحلات، ويجب ترك الفرصة للأجهزة الأمنية الفرنسية لاكتشاف الحقيقة. ومن رأينا أنه يجب التساؤل أولا عن الجهة أو الجهات المستفيدة من هذه الجريمة النكراء، أي لماذا قتلن، وبهذه الجرأة، وفي وضح النهار.
إن أكثر الفرضيات الرائجة لحد الساعة تربط الجريمة بالمباحثات التي جرت بين السلطات التركية وعبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني، في سجنه، والسماح لنواب أكراد بزيارته مطولا، والإعلان عن قرب التوصل لاتفاق مع حزب العمال الكردستاني. فإذا صحت هذه القراءة، أي ارتباط الجريمة بالمباحثات المذكورة، فإن الطرف، أو الأطراف المشتبه بتورطها هي التي لا تريد حلا سلميا للقضية، سواء كانت من المتشددين داخل الحزب المذكور أو من أقصى اليمين العنصري التركي. ومعلوم أيضا أن النظام السوري يشجع الغلاة في الحزب على مواصلة التحرش بالقوات التركية برغم إعلان الهدنة. وعندما نشير لدمشق فيجب أن نضيف طهران بالضرورة، التي سبق وأن اغتالت بغدر القائد لكردي الراحل قاسملو في فينا- هذا وعلما بأن اعتقال أوجلان كان نتيجة غدر النظام السوري بالذات، المعروف بالغدر والانقلاب على من يتعامل معهم.
عندما اعتقل أوجلان، نشرت في صحيفة الزمان العراقية بتاريخ 21 نوفمبر 1998 مقالا بعنوان quot; قضية اوجلان هي القضية الكرديةquot;. وأوجلان هو رمز معترف به لعدالة القضية الكردية في تركيا، كما في المنطقة. ونعرف أن أكراد تركيا هم الأكثر عددا بكثير من أكراد العراق، أو إيران أو سورية، وكانوا محرومين على مدى العقود الطويلة حتى من ممارسة لغتهم القومية، ناهيكم عن أبسط الحقوق الإدارية. ومع أن أتاتورك جاء بثورة تنويرية علمانية كاسحة، فإن ثورته التحديثية عانت من عيوب كبيرة في مقدمتها الموقف السلبي من قضايا الأقليات، والأرمن والكورد خاصة. ولاشك في أن الديمقراطية العلمانية يجب أن تتسع لحقوق القوميات وإلا كانت مثلومة. ومع مجيء الإسلاميين للحكم، ظل التعنت العنصري نفسه، سواء تجاه القومية الكردية أو المذبحة الأرمنية، مع المساعي المتواصلة للنخر في أركان العلمانية ومؤسساتها، من جيش وقضاء وتعليم. ويبدو أن الحكومة التركية أدركت أخيرا أنه يجب اتخاذ بعض الخطوات لصالح الأكراد، سواء عن قناعة أو لكسب ثقة الاتحاد الأوروبي الذي تسعى تركيا للانضمام إليه، مع أن الاتحاد يركز على القضية القبرصية أكثر بكثير مما يركز على قضية الشعب الكردي.
إن قضية حزب العمال الكردي هي قضية إشكالية، خصوصا لأنه يعتمد الكفاح المسلح. وكان أوجلان قد أعلن بعد التجربة، ومرة بعد مرة، عن ضرورة وقف العمل المسلح بانتظار الحل السلمي؛ ولكن بعض الغلاة في الحزب لم يرضوا بنداءاته. وفي الكفاح المسلح تذهب ضحايا من المدنيين، مما يستغله المتشددون الأتراك. كما أن هذا الأسلوب يضعف التضامن الدولي مع الحزب، لاسيما وإن تركيا عضو في حلف الأطلسي.
في المقال المشار إليه يرد التالي:quot; إن الحل السلمي الديمقراطي للمشكلة الكردية هو وحده الذي يضمن العدالة والاستقرار والأمن في البلدان التي يتجزأ فيها الأكراد.quot; والنضال السلمي، القائم على إستراتيجية واضحة ومنفتحة ومبدئية،[ نقصد عدم التخلي عن الحقوق الأساسية مع المرونة التكتيكية اليقظة دوما تجاه المناورات]، كفيل بكسب الدعم الدولي وعزل المتشددين من أي جانب كانوا، والحيلولة دون استغلال أطراف خارجية للقضية الكردية لأغراضها الخاصة، كما هو شان النظام السوري مثلا.
إن حكومة أرودغان تبدي حماسة متقدة لتأييد المعارضة السورية ولدعم ما سمي بالربيع العربي، ملوحة بشعارات الديمقراطية والحرية والعدالة،. ولكنها تريد أن ننسى أن هذه الشعارات الجميلة يجب أن تجد تطبيقها في تركيا أولا، وخاصة فيما يخص ضمان حقوق الشعب الكردي في إطار حكم ذاتي متقدم يتطور تدريجيا نحو الفيدرالية. وهذا الحل هو لمصلحة تركيا نفسها وكل الشعب التركي، وضمان للاستقرار والأمن والتقدم الاقتصادي. إن حلا جريئا كهذا هو المطلوب وليس التفكير في بضع خطوات جزئية ومتعثرة برغم الترحيب بها على أية حال. كما آن الأوان لإطلاق سراح أوجلان كعربون أول لإرادة التحول الديمقراطي في القضية الكردية وكبرهان عملي.
إن تغيرا تركيا ديمقراطيا وإنسانيا بالانفتاح الجريء على قضية أكرادها سيكون دعامة خير وازدهار واستقرار لتركيا، وخطوة هامة لمصلحة كافة شعوب المنطقة.