عندما ارتديت زى الحرب أول مرة وأقسمت تحت العلم على الدفاع حتى الموت عن هذه البقعة من الجغرافيا، لم أندم يوما على هذا القسم،وحافظت على كل بنوده، وأعتقد بأننى أديت دورى كاملا فى آخر الحروب وكان موقعى فى الانساق الاولى وكان النصر حليفى. ولم أندم أبدا على هذا العهد لأسباب عدة، منها أن الرجل الذى صادق على منحى شرف الدفاع عن هذا الوطن كان ولا يزال رمزا للحرية والكرامة، نما حبه فى قلبى الغض مع سنى مراهقتى الاولى، سبب آخر أردده فى كل طروحاتى : أن هذه الارض هى أرض أجدادى، أملكها بصك لا يستطيع كائن أن يشكك فيه،لذا عشقتها حتى الثمالة،وأعطيتها زهرة عمرى، وحاربت لاجلها وفرحت لأجلها وحزنت لاجلها، لانى لم أشعر فيها يوما أنى من أقلية، ليس لرغبة الاكثرية فى ذلك، وانما لأنى لم أسمح لهذا الشعور البغيض أن يتسلل إلى روحى، وعندما كنت ألمح بادرة من هذا النوع المقيت تحوم فى فكر أحدهم، ينتفض بداخلى وحش كاسر، لا أملك السيطرة عليه حتى ينسحب الجميع أمامه مذعورين، بينما الدهشة تكسو وجوههم، وفى المقابل لم أسمح لنفسى أبدا بأى شعور إستعلاء أو تمايز على إنسان،أى إنسان أيا كان لونه أو دينه أو عرقه، وأعتقد أننى كسبت احترام كل من يقدس الحريه، وكل من يحترم العقل ويؤمن بالمساواه بين البشر كل البشر،وكانوا كثر.

السبب الثالث والاهم هو أحداث جرت خلال عقد من الزمن هو العقد الثانى من عمرى، أحداث تمحور حولها كيانى كله ولم تفلح أى تراكمات أخرى طوال نصف قرن من أفراح وأتراح أن تزحزح أو تمحى أى من تفاصيلها حتى الصغيرة منها،هذه السنين العشر المحفورة على لوح ذاكرتى هى خبيئتى المدفونة التى أعود إليها وقتما أريد وخصوصا فى الازمات،أقلبها وأتأملها وأغسل فيها همومى وأحزانى،وكنت أتمنى لو أصبحت رساما حتى استطيع أن أجسد لكم هذا المشهد المبهر الذى مضى علىه أكثر من نصف قرن، هذا المشهد المحفور فى عظام الجمجمة، كجدارية لأسطورة قديمة، وهى أسطورة لأن الحكى عنها فى هذا الزمان كالحكى عن كائنات من كوكب غريب، ولولا أننى كنت أحد شخوصها الفاعلين أحيانا لكنت قد تشككت فى حدوثها من الاصل.

كالعادة وفى أواخر (السنة التوتية)يتم الفيضان انحساره عن ضفتى النهر فى هذه البقعة من الصعيد الأدنى، لكن مرات كان يتلكأ فيلحق بالاسابيع الاولى من بدء الدراسة،وكان على أن أصارع مع دابتى العجوز كل صباح،لاجتياز بعض البرك والمخاضات التى نساها النهر عند رحيله،تطاوعنى دابتى احايين وتنصاع لتوجيهات عصاى الصغيرة،وحينا تقاوم بشدة وإن لم ينقذنى أحدهم يضيع اليوم الدراسى بسبب عنادها،ودابتى العجوز كانت وسيلتى للذهاب الى مدرستى وكنا نقطع معا كيلومترات خمسة ذهابا ومثلها إيابا يكون النهر عن يسارى فى الصباح ذاهبا يؤنسنى تياره الراحل الى الشمال، ويعود عن يمينى فى الظهيرة عائدا،أقابل مياهه القادمة من الجنوب وكانت رائحتة تملأ خياشيمى اليوم كله حتى من نافذة فصلى المطله عليه.وحين يتم النهر انحساره مع إنقضاء آخر أيام (النسيئ)،يترك الضفاف الممتدة مكسوة بالغرين الصافى بلونه العنبرى الغامق، ومن ثم تبدأ فى التماسك ويشتد قوامها رويدا رويدا، ويبداون فى زرعة ولا يكلف الامر سوى محراث وبقرتان، لا مياه ولا سماد حتى حصاد بقول وثمار هى الأجود والاشهى على الاطلاق فى كل ما تذوقت فى حياتى. وكان الصغار من أقرانى يتحلقون حول دابتى فى رحلة العودة، متضرعين لأنزل وأفتح لهم حقيبتى ليروا الصور فى كتبى، ولا ينسوا أن يدسوا خلسة فى حقيبتى من بواكير زرعهم، الذى مازال مذاقه الشهى مطبوعا فى سقف حلقى منذ نصف قرن، وامعانا فى إكرامى تنال دابتى نصيبها من الغذاء والرواء واستراحة لاباس بها، ثم نبدأ وصلة لعب برئ تذوب معها كل نظم العزل الكريهة الشائعة الان على كل الساحات، الذكر والانثى والغنى والفقير والمسلم والمسيحي.

وفى تلك الايام كان الزعيم يصدح مغردا صباحا ومساء والجماهير تلتف حوله كمبعوث الهى لانقاذ هذه الامة، وكانت أم كلثوم تغنى للحب والسلام، وعبد الحليم يغنى للمسيح والسد والثورة، وعبد الباسط يقرأ القرآن فى الثامنة مساء يوم السبت (طبقا لجدول الاذاعة)، وطه حسين يحدثنا مساء الأربعاء عن اللغة والوجود والعقل، وكيرلس السادس يجوب القرى والنجوع بلا حراسة،وينحنى امبراطور اثيوبيا ويقبل يده، ونتجاورمسلمون ومسيحيون فى مدرسة (المسيو صموئيل)، وفى كتّاب (الشيخ عبد العليم )، وسينما (ماتينيه) يوم السوق الاسبوعى للفلاحين القادمبن من الاطراف، والتذكرة ومعها قطعة حلوى بقرش واحد، وكانت الافلام رد قلبى والناصر صلاح الدين والارض والزوجة الثانية، والمارشات العسكرية من صوت العرب تليها أخبار صواريخ القاهر والظافر، ومسرح البالون والعشرة الطيبة والليلة الكبيرة،ومسرح التليفزيون والناس اللى فوق، والفقر الذى كان يعم الجميع،والسلام الذى كان يعم الجميع أيضا، السلام الذى كان علامة بارزة لا تخطئها عين، فلم يكن هناك جرائم ولا زنا محارم ولا فتن ولا قتل ولا فساد ولا إرهاب،ورأيت بأم عينى من كاد يموت جوعا ولم يسرق أبدا، ولم يعتد أبدا، ولم يكن يملك من العقيدة سوى ثوابتها التى امتلكها بالفطرة وسيج حولها فى قلبه قلعة حصينة،فلم يكن هناك مفتين ولا متفيقهين فى ذاك الزمن الجميل، ورأيت بعينى كيف كان الناس يحبون الناس، ويعيشون أعراقا مختلفة،عرب وقبط وأمازيج وبدو يعيشون على الفطرة ولا يتعايشون على مضض، كما يعيشون هذه الايام متنمرين بعضهم لبعض، هذه الايام الحبلى بالدماء، وأود لو يجيبنا فلاسفة تبرير العنف عن كيف يتعايش الفقر مع السلام. وفى أواخر العام الدراسى،وعندما ترتفع هامات شخوص (خيال المقاتة) على طول الضفاف،أعرف أن بواكير ثمار البطيخ والشمام قد بدأت فى النضوج، وبخبرة الصداقة مع هذا الجسر الطويل، أعرف أين أجد ما أبحث عنه، إنه البطيخ الأصفر (تذكروا كان ذاك من نصف قرن)،حيث لا هندسة وراثية ولا غيره،والأعجب منه البطيخ البرتقالى نعم أكلت البطيخ الاصفر والبطيخ البرتقالى، من حقل فلاح أمى بسيط فى ستينات القرن الماضى، ولم أعرف وقتها أننى آكل فاكهة سوف تنقرض الى الابد، فلم تمر بضع سنين حتى جاءت الهزيمة،ولم يعد النهر يفيض،ومات الزعيم،ونمت على الضفاف حقول الشيطان، التى مالبثت أن أثمرت قتلا وعنفا ودماء ودموع وحزن.

قد يظن قارئ أن هذه السطور هى زفرات حنين من منفى أو مهجر لكن الحقيقة أن ربا الأحلام التى سكنت كيانى فى ذلك الزمان هى التى غادرت الى الماضى السحيق والنهر العفى الهادر الذى عشقته فى تلك الايام، لم أعد أعرفه، فقد بات يزحف كدودة مذعورة،يبولون فى مجراه، وتملؤه الجيف،وأسنت مياهه، وهجرته الاشرعة الى الابد.
وبعد نصف قرن، عرفت أننى كنت أرى الثناية المعجزة الفقر والسلام أقصد الثلاثية المعجزة الفقر والسلام..... والبطيخ الاصفر.