بدأت قبل ايام قلائل الحملة الانتخابية لاختيار اعضاء مجالس المحافظات التي من المقرر ان تتم في العشرين من شهر نيسان المقبل، حينما اعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق عن بدء الحملات الانتخابية في يوم الاول من شهر اذار الحالي، في وسط بيئة سياسية واجتماعية واقتصادية غير مستقرة، وفي مشهد ينذر بمخاطر الاحتراب الاهلي، كنتيجة منطقية لمخرجات العملية السياسية والتي ابتدأت بمدخلات يمكن وصفها اصطلاحا بانها (GIGO) وهو مصطلح قائم على معادلة مفادها ان quot;مدخلات خاطئة تقود الى مخرجات خاطئةquot;، لانها بنيت وفق ديمقراطية زائفة هي الديمقراطية التوافقية، وانتجت لنا دستورا كسيحا لايؤسس لدولة عصرية حداثية، مع نخبة سياسية ماضوية لاتنظر الى الغد بقدر نظرتها الى الماضي. لذا لم يتح للعراق تبعا لهذه الحقائق من تمهيد الطرق لمؤسسات ديمقراطية فاعلة، وانما جل المؤسسات التي تم انشاءها هلامية غير واضحة المعالم، ويفتقر النظام الى اهم مبدأ اساسي هو الفصل مابين السلطات القضائية والتنفيذية والتشريعية.
والديمقراطية في البلدان المتقدمة هي ليست مجرد وسيلة للتنافس على السلطة السياسية، بل هي عنصر فاعل وحاضر في حياة الناس ومرتبط بطريقة تعريفهم لانفسهم، وحتى لو انهم كانوا غير راضين عن الممارسات السياسية او الاداء السياسي فان هؤلاء لن يفكروا يوما ما بايجاد بديل عن الديمقراطية، واذا ما شعروا بانها باتت مهددة، حينها سيكونون مستعدين للدفاع عنها الى اخر رمق، لانها مصدر اطمئنان وتجسيدا لهويتهم ومعبرة عن مطالبهم عن طريق مؤسسات راسخة.
ومن هنا تنشأ الشرعية القانونية العقلانية للحاكم، الذي يعمتد على نظام من القوانين والاجراءات المعبر عنها بمؤسسات راسخة وثابتة، وتبعا لذلك فالزعماء والقادة يمتلكون شرعية بفضل القوانين التي اوصلتهم الى مناصبهم ويمتثل الناس لقراراتهم لانهم يؤمنون بان القوانين التي يطبقونها تصب اولا واخيرا في مصلحتهم والمصلحة العامة، ومن ثم فان المنصب هو الذي يمنح اي شخص قوة الشرعية وبالتالي فان من يمتلك الشرعية هو المنصب وليس الشخص وحالما يغادر الشخص نفسه منصبه يفقد سلطته.
اما الديمقراطية في العراق لم تكن كذلك وبداياتها كانت متعثرة الى حد ما، وبالتالي اصبح لدينا في العراق شكل ديمقراطي يتمثل في الصندوق الانتخابي، في حين نفتقر الى المضمون الديمقراطي الحقيقي وهذا هو الاهم، فالعراقيون لاينظرون الى الديمقراطية بوصفها معرفة عنهم ولا لوجودهم، ولا هي مصدر استقرار لهم، بل ان الحديث الان ينصب بصورة واضحة على اخفاق الديمقراطية وان مستقبلها غير مضمون، وانها انتجت ولاءات لمجموعات مختلفة تماما عن المؤسسات المتعارف عليها في الديمقراطيات الراشدة،كالولاء الاثني او الطائفي او القبيلة او ما شابه ذلك.
واتساقا مع ماذكر اعلاه، فان السلوك التصويتي للناخب العراقي من خلال انتخابات مجالس المحافظات او الانتخابات التشريعية نم عن هذه العقلية، فالناخب لايتجه الى الصندوق الانتخابي على اساس الكفاءة او المشروع السياسي او الاقتصادي او الاجتماعي، وانما يضع في الصندوق حكم القيمة اي انه يضع تصوراته الذهنية بعقلية الطائفة او القومية او العشائرية او المناطقية.
والمؤسسات الديمقراطية ليست فقط بنى ملموسة، وانما هي قيم يتم زراعتها في داخل المجتمع فرادا او مجتمعين، ولذا فان ازالتها من الوجود في سنوات لاحقة تبدو عصية الى حد ما، وبذا تتحول الديمقراطية الى لاصق مجتمعي يجمع الافرقاء على مختلف مشاربهم، اما الديمقراطية في العراق فانها إما انها أسست لبنى تقليدية منافية للدولة، او انها مهدت الى انقسام مجتمعي اكثر، والسلوك السياسي للطبقة السياسية الصاعدة بعد الاحتلال دفع الناس الى إيثار دفاعاتهم المحلية، لانهم رأوا في هذه الديمقراطية وسيلة تدمير لا بناء، فساد لا إعمار، تهميش، لا مشاركة، انتهاك لحقوق الانسان وحرياته، وبذا يتم تقديم الديمقراطية على مذبح المشهد العراقي بانها ادت الى نتيجة معاكسة للتوقعات، وبات الحديث عن الديمقراطية العراقية بانها انموذج سيئ يتم التحذير منه، وبتنا نسمع مصطلح quot; عرقنةquot; للحديث عن مخاطر تحول هذه الدولة او تلك الى عراق آخر.
نعم ستجري الانتخابات، لكنها تجري في ظل انقسام مجتمعي حاد، وانسداد الافق السياسي، وحراك شعبي ناقم على سلوك المركز، مجسدا بشخصية رئيس الوزراء نوري المالكي، مع تزايد نذر الحرب الاهلية.
والسؤال المنطقي هنا مالذي ستاتي به هذه الانتخابات من جديد؟ ومعظم العراقيون يدركون ان المنصب بات من اجل تحقيق مصالح شخصية، وليس من اجل نفع الناس، ومئات الصور ترفع لكن دون مضمون ودون برامج حقيقة وانما مجرد شعارات اغلبها فضفاضة ساذجة، ويحاول البعض من المرشحين إستغلال الأوضاع المعيشية الصعبة للمواطنين بتقديم هدايا، أو مساعدات مادية او عينية كجزء من الدعاية الانتخابية.
كما اصبح لدينا ما يسمى quot;بالعائلة السياسيةquot;، إذ نتيجة لغياب حقيقي للاحزاب، فان نواب وساسة يلجأون الى ترشيح ابنائهم او ازوجاهم او زوجاتهم او اقاربهم، ورأس المال يسيطر الى حد ما على المشهد الانتخابي، إذ مع غياب قانون الاحزاب فان مصادر التمويل تبدو سائبة دون محاسبة، وقانون الانتخابات لم يتناول هذه الموضوع بجدية، وهو ما يؤدي إلى الاخلال بمبدأ العدالة وعدم المساواة في فرص وصول المرشحين بسبب التمايز في قدرة المرشحين والكتل على اﻹنفاق على حملاتهم، في مقابل عدم قدرة المرشحين والقوائم اخرى على ذلك. وباالتالي فان الانتخابات القادمة هي quot; انتخابات رؤوس الاموالquot; بأمتياز وهذا ما سوف تكون عليه عنوان مقالتنا اللاحقة.
- آخر تحديث :
التعليقات