بداية النهاية، برزت في أروقتها، نظام مهترء في قاعاتها يتهدم، وفد الإئتلاف الوطني السوري طرق بنايانها بمطرقة الثورة، رغم طغيان النبرة العاطفية على الكلمة السياسية، وسيطرة مفاهيم الإسلام السياسي على الثوري الشبابي، إلا أنها طرقت آذان القادة، وبدى الإمتعاض واضحاً. الجامعة العربية تتجه إلى إنهيار واضح المعالم، مثلها مثل الأنظمة الشمولية. كم من العقود تتالت، وتعالت حول جدرانها الأصوات، وشهرت بمواقفها المتخاذلة امام قضايا شعوبها، إلى أن سمعت بعض الصدى الخافت اليوم في اروقتها، على خلفية ثورات الشباب التي تجتاح دولها، والتي دعمت من قبل الإعلام والكتاب، الذين أتهموها في الفترة الأخيرة بأنها جامعة الحكومات والطغاة، ولا تمثل الشعوب العربية، ولا غاياتهم أومطالبهم.

برزت طفرات نوعية في عدد من جلساتها، لكن القوى التي كانت تسيطر عليها كانت تقف في وجه كل تغيير أو تحوير لمسارها المهادن أبداً، فتمكن البعض الثوري في مؤتمر القمة العربية الحالي الرابعة والعشرون والمنعقدة في قطر، من خلق طفرة في الإتجاه الملائم لمسيرة التغيرات التي تحدث في دول الثورات، علماً بأنها بقيت متخلفة في كثيره، ولم تكن ملائمة لمفاهيم الثورات وغاياتها البعيدة، مع ذلك، فالثورة بدأت تطرق الأبواب، واجتاحت بعض أروقتها، وتبينت للعالم من هم ثوار التغيير فيها ومن هم السلطات التي ترفضها وتقف في وجهها.

طرق مؤتمر القمة العربية الحالية، العديد من الأبواب، ومنها باب الجامعة العربية ذاته، فطالب البعض منهم اسقاط النظام السابق فيه، لكن الجامعة وككل السلطات، لا تتجرأ الى فتح كل المجالات، بقيت على سياسية التوازن مع بعض الحكومات التي لا تختلف في كثيره عن الطاغية السوري، ولا عن القذافي، لكن لم يتجرأ أي ثوري في الداخل من المواجهة، تحت حجة قوانين الجامعة، مثلما نافق الوفد العراقي برفضه لثورة الشعب السوري بعدم الموافقة على ممثله البديل عن سلطة بشار الأسد، تحت حجة نظام الجامعة العربية، وهو يعلم بأن نظام الجامعة انعكاس للأنظمة الدكتاتورية السابقة أو الباقين، أو الذين يريدون أن يحصلوا على طغيان جديد، وكان الأجدر بالثوار في الجامعة مواجهة الأنظمة الطاغية المتواجدة في القاعة، لكن الإشكالية هو أن الأغلبية المطلقة في المؤتمر طغاة إما بالأنظمة الجمهورية أو بالأنظمة الملكية والحكم المطلق الإلهي، وعليه فالواقع الذي أثير في الجامعة انعكاس حقيقي لثورات الشباب، لا زال الثوار يمثلون الأقلية في الساحة، والإنتهازيون يسيطرون هنا وهناك، علماً أن الثورة أجتاحتها، ودخلت اروقتها، فالتغيير قادم، وتحتاج إلى زمن مثلما تحتاج ثورات الربيع إليها.

تبينت سوية القوى الإنتهازية في القمة العربية من خلال جملة من القضايا التي طرحت، وذلك في أسلوب كتابة البيان الختامي وعرضهم للمواضيع. فقد طرح على المؤتمر قضايا عديدة، معظمها أنجرفت في المجاري الروتينية، كررت بنود المؤتمرات السابقة ومطالبها، مع تبديل في أرقامها وأماكن فقراتها، علماً أن بيانها الختامي، كانت من أطول البيانات في تاريخ الجامعة على الأرجح، فلم تترك دولة إلا وأخذ بخاطرها، وعرضت قضيتها كما ترغبها وفودها، لكن الأهم في كله، طريقة طرحها للقضية الفلسطينية، توسعوا فيها إلى حد الملل من كثرة التوضيحات والمطالب العديدة جداً، وكأنها كانت رسالة موجهة ليست إلى الدولة الإسرائيلية، أو الدول المعنية بالأمر، بقدر ما كانت موجهة إلى الدولة الفلسطينية، والتي تعتبر في ذاتها نقداً لها لا مساندة، فقد شمل بنودها كل تاريخ الخلافات والمطبات والقضايا العالقة منذ بداية النكسة وحتى اليوم، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً واجتماعياً وغيرها، إلى درجت الاقتناع بأن المسايرة كانت رد فعل على بعض الجهات الذين ينقدون الثورات على أنها أهملت القضية الفلسطينية، ونسيت ثورتها، وعليه فان أغلب الحركات والمثقفين الفلسطينيين يقفون ضد أو على الحياد من الثورات تحت حجج أسلمتها، وإزالة السلطات التي كانت ترفع شعار الصمود والتصدي. وقد مثل هذا البند رغبة التيار الإنتهازي والمارقين على الثورات ضمن القمة.

تتالت ذكر الدول والجزر العربية والمطالبة بها أو دعمها اقتصادياً أو سياسياً تجاه دول أخرى، وهي من خضم توجهات تيار الأنظمة الجامدة السابقة، والتي تطرح البنود بدون متابعة أو تشكيلات لجان لتطبيقها على الساحة الفعلية، ذكرت من جزر القمر إلى قضية الصومال إلى الجزر الثلاث في الخليج. وغابت هنا وبشكل تام قضية الشعوب في هذه الدول ومطالبهم، ولم يتطرق أي من الوفود إلى قضية الشعب السوداني أو الجزائري على سبيل المثال، الذين يسيطران عليهما دكتاتورين مثل غيرهم من السلطات الشمولية، ومرت بدون ذكر كالعادة على أنها قضية داخلية، وستبقى داخلية إلى أن تدمر البنية التحتية للوطن ويقتل الشعب في الساحات.

تمكن التيار الثوري في القمة، من تمرير القضية الثورية الوحيدة، وهي القضية السورية، وأوصلتها إلى درجة نوعية من الاعتراف الدولي، على أمل أن تذهب بها إلى المحافل العالمية بثقل سياسي ودعم أوسع، اعترفت الجامعة العربية، رغم امتعاض البعض، من الشعب السوري وثورته، من خلال السماح للدول الراغبة بدعمها عسكريا، وكل على انفراد، علما أن هذا البند قد عرض وفرض من قبل الولايات المتحدة الأميريكية وبموافقة البعض من الدول الأوروبية، لذلك كان مرافقا لتنبيه وزير خارجية أميريكا للعراق حول استخدام أيران لأجوائها بنقل المساعدات العسكرية إلى السلطة السورية. لا شك أن هذه المساعدات وبهذه العشوائية سوف تخلق تيارات عسكرية متنوعة وباتجاهات مختلفة، تأثيراتها ستكون وخيمة على الثورة بعد سقوط نظام بشار الأسد.

لا تزال الجامعة العربية، ونعني وفودها، بمفاهيمهم ينهلون من الثقافات القومية العنصرية، وتطغى عليهم مفاهيم الأنا والغاء الآخر، وسيطرة التيار الإسلامي السياسي الراديكالي واضح الحضور، لذلك لم يتعدى التطرق إلى المسائل الإجتماعية الحضارية مستوى رفع العتب أمام الرأي العام العالمي، ومنها قضية المرأة وحريتها، ومساواتها بالرجل في مجالات العمل، وحقوقها العامة، ذكرت ببند وكأنه بيان تأييد لمسيرة نسائية في أحد ساحات الدول الخارجية، لا كبيان متابعة وتفعيل أوالعمل عليها بلجان مدعومة بصندوق مالي.

كما وغابت عن مؤتمر القمة العربية هذه مثل المؤتمرات السابقة قضية القوميات والطوائف التي لها وجود تاريخي عريق وجغرافي محدد وواضح المعالم داخل الوطن العربي، وبكيانات خاصة، العديد منهم مهمشون على مدى عقود من الزمن، اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، كالشعب الكردي والأمازيغي والطوارق والبربر، والقبطي، ولم تبحث قضية دارفور أو النيل الأبيض، وقضايا بعض الأقليات المذهبية الأخرى كالمسيحيين في العديد من الدول أو الأشوريين والإيزيديين وغيرهم. لم يتجرأ أي وفد من التطرق إلى هذه المشاكل الكبرى، فالبعض منهم يرفضونها كقضايا تهم الجامعة العربية، علما بأنها من القضايا التي سوف تقف عليها ثورات العديد من الدول، ومتى بلغت الثورة بكليتها عمق الجامعة عندها ستكون هذه القضايا بين البنود المهمة والمدرجة على جدول المباحثات، وسوف تعالج وتدرس كقضايا رئيسة بين الشعوب العربية، ولا يمكن أن يحل السلام والتطور فيها بدون حلول منطقية لهذه الشعوب.

تأثرت القمة العربية بالثورات، وتغيرت فيها بعض المفاهيم وتبدلت نوعية الكلمة قليلاً، واساليب التعامل والمواضيع التي يجب أن تطرح، لكن الإنتهازية لا تزال غالبة على أجوائها، وقبول الوفود لبعض المواضيع جاءت من منطق الخوف من القادم الثوري وليس عن قناعة بالتغيير، الجامعة العربية تحتاج إلى ثورة كالثورات التي تجتاح الساحات، لتظهر على منصاتها وبين الوفود الوجوه الشبابية الثورية، رغم ظهور البعض، لكن معظمهم كانوا عناصر شبابية من العائلات المالكة أو المسيطرة، وليست من العناصر الشبابية الثورية والتي تتبنى المفاهيم الحضارية الديمقراطية، التي يتشربها اليوم الشارع الثوري، مع ذلك فالعنصر الثوري فرض ذاته في القمة بعد أن فتح له الأبواب على مضض، عن طريق رئيس الوفد السوري أحمد معاذ الخطيب وذلك من خلال جملته الأخيرة والموجهة إلى الحكام وملوك العرب، والتي حملت مفهوماً ثورياً من منطق الإسلام السياسي وليس الشبابي لم تألفها سابقاً أروقة الجامعة العربية ولا قممها، عندما قال: أتقوا الله في شعوبكم، وحصنوا بلادكم بالعدل والانصاف.

الولايات المتحدة الأميريكية

[email protected]