كان ذلك في العام 1992، في اواخر شهر ايار- مايو بالذات. ذهبت من لندن لمقابلة الرئيس صائب سلام، رحمه الله، في جنيف.
استقبلني في شقته المتواضعة في وقت كان كثيرون، من سيئي النيّة، يقولون أنّه يقيم في قصر. لم تكن زعامة صائب سلام في حاجة الى قصر. كان صائب سلام زعيما حقيقيا ان في داره العامرة في حي المصيطبة البيروتي، بابوابها المفتوحة امام الناس، او داخل شقته في جنيف. كانت الى جانبه زوجته السيدة تميمة، السيدة الفاضلة الحريصة دائما على الاهتمام به وبصحته، بما في ذلك ثنيه بين الحين والآخر عن تدخين سيجاره الكوبي...
كان الهدف من الزيارة اجراء لقاء طويل مع احد كبار رجالات لبنان في الذكرى العاشرة للاجتياح الاسرائيلي للوطن الصغير. بدأ الاجتياح في الاسبوع الاوّل من شهر حزيران- يونيو 1982 وادى بين ما ادى الى خروج القوات الفلسطينية من بيروت في آب- اغسطس، فضلا عن احتلال بيروت لفترة قصيرة.
لعب صائب سلام، في اثناء الاجتياح، الدور الابرز في حماية بيروت من التدمير والتوصل الى الاتفاق الذي ادى الى خروج المسلحين الفلسطينيين من العاصمة اللبنانية.
وقتذاك، كانت دار صائب سلام في المصيطبة المكان الذي تجمّع فيه كل السياسيين اللبنانيين والقادة الفلسطينيين بحثا عن حماية من القصف الاسرائيلي المتواصل الذي اغرق المدينة في بحر من الدم والنار.
لم يكن غير صائب سلام يقصده الجميع، بما في ذلك خصومه، بحثا عن مخرج يحافظ على بيروت ويحدّ في الوقت ذاته من الجنون الاسرائيلي الذي كان نموذجا لارهاب الدولة اكثر من أيّ شيء آخر.
لا مجال لتعداد الكوارث التي خلفها الاجتياح الاسرائيلي، بما في ذلك حرب الجبل وتأليبه المسيحيين على المسلمين والمسلمين على المسيحيين. فقد كان هدفه واضحا كلّ الوضوح. كان يتمثل في تفتيت لبنان وتعميق الانقسامات فيه وليس الاكتفاء باخراج المسلحين الفلسطينيين وياسر عرفات، رحمه الله، من لبنان. كان هناك حلف غير مقدّس عمره سنوات بين اسرائيل والنظام السوري الذي كان ينفّذ الجانب المتعلّق به من الاتفاق غير المكتوب بين الجانبين تحت عنوان أن لبنان quot;ساحةquot; وليس وطنا لكل ابنائه.
وقد استكمل النظام السوري المهمّة المطلوبة منه في مرحلة ما بعد الانسحاب الاسرائيلي من بيروت ثم من الجبل وبقائه في شريط حدودي في الجنوب حتى العام 2000.
تناولت الغداء ثلاث مرات الى مائدة صائب سلام في شقته. كانت السيدة تميمة مردم بك سلام، ابنة العائلة السورية العريقة، حاضرة في كلّ وقت.
في المرّات الثلاث، وخلال الحديث عن الاجتياح الاسرائيلي للبنان في العام 1982، كان الابن الاكبر تمّام سلام هاجس الرجل الكبير الذي كان الجميع يسمّيه صائب بك. فقد بقي تمّام سلام في بيروت مقيما في منزل العائلة، ولكن بعدما تغيّرت طبيعة الاحياء والشوارع المحيطة بدار آل سلام.
ولمّا سألت الرجل الكبير: لماذا انت في جنيف وليس في بيروت؟ كان جوابه بلهجته البيروتية المحببة:quot; انا مش من جماعة تعا... تعا، روح...روحquot;. كان يعني بذلك أنه لم يكن مستعدا للمكوث في بيروت تحت رحمة النظام السوري، الذي عاد ابتداء من العام 1986 بقوة الى العاصمة اللبنانية. لم يكن مستعدا لأن يلبي طلب استدعائه الى دمشق، بغية اتخاذ مواقف معيّنة تتعارض مع ما يؤمن به، متى شاء النظام ذلك.
ذهب صائب سلام الى ابعد من ذلك، عندما شرح أن عدم تلبيته طلب الاستدعاء الى دمشق وتنفيذ المطلوب منه سيؤديان الى الحاق الاذى باحد العاملين لديه او احد مساعديه. كان ذلك الاسلوب الذي يعتمده النظام السوري كي يفهم السياسي اللبناني أنه لا يمزح وأنه عندما يريد شيئا، على هذا السياسي اللبناني او ذاك تلبية الطلب من دون أي سؤال او اعتراض من أي نوع كان.
سألته هل استطيع نشر عبارة quot; أنا مش من جماعة تعا...تعا، روح...روحquot; باعتبار ان الحديث عن اسباب وجوده في المنفى ورأيه في الممارسات السورية في لبنان ليسا للنشر، فاجاب أن في استطاعتي استخدام هذه العبارة ولكن من دون الاشارة الى التفاصيل الاخرى المتعلقة بموقفه من النظام السوري واسلوب تعاطيه مع السياسيين اللبنانيين.
ولكن مباشرة بعد عودتي الى لندن من جنيف وقبل المباشرة في تفريغ نص الحديث عن اجتياح 1982، رنّ جرس الهاتف في شقتي...واذا صائب بك سلام في الجانب الآخر من الخطّ. بادرني بشكري على زيارته في جنيف واستعادة ما جرى في بيروت صيف العام 1982 معه وتمنّى عليّ حذف عبارة quot; أنا مش من جماعة تعا...تعا، روح...روحquot;. كانت حجته أن quot;تمّام في بيروت...ويمكن للسوريين أن يلحقوا به اذىquot;.
كان صائب سلام يتطلّع دائما الى مستقبل تمّام ويحاول مساعدته قدر الامكان، بعد كلّ الظلم الذي لحق بعائلة لعبت دورا في بناء لبنان الحديث منذ ما قبل الاستقلال. لم يكن هذا الظلم عائدا فقط الى الحرب الاهلية اللبنانية في العام 1975 التي شهدت ظهور ميليشيات سيطرت على الاحياء المسيحية والاسلامية في بيروت واهانت الاوادم. لقد تعرّض صائب سلام ايضا لظلم العرب عندما تغاضى هؤلاء عن الممارسات السورية وعن عملية استخدام الفلسطينيين في عملية تدمير بيروت وتهميش السياسيين التقليديين الذين يعبّرون عن فكرة اسمها لبنان العيش المشترك وعن الوسطية في كلّ شيء والذي كانت مدارس quot;المقاصد الاسلاميةquot; خير تعبير عنه. وكان صائب سلام في طليعة هؤلاء، خصوصا أنه كان بعيدا كلّ البعد عن كل ما هو طائفي او مذهبي...او ما يمت بصلة للميليشيات المسلّحة.
في الثالث والعشرين من كانون الثاني- يناير 2000، توفى صائب سلام. يستطيع صائب بك الآن النوم قرير العين بعدما تحقّق بعض من حلمه. اصبح تمّام بك، دولة الرئيس تمّام بك سلام. كان تكليفه تشكيل الحكومة كافيا ليشعر اللبنانيون أن كابوسا زال وأن لبنان دخل مرحلة جديدة نحو الافضل. فدار آل سلام في المصيطبة التي فتحت ابوابها مجددا رمز من رموز لبنان القديم الذي لا يحنّ اللبنانيون في اكثريتهم الى غيره، بحسناته وسيئاته.
هل هي بداية عودة لبنان؟ ام أنّ الذين لا همّ لهم سوى التدمير ونشر ثقافة الموت، اولئك الذين قتلوا رفيق الحريري لانّه اعاد بناء بيروت وهجّروا صائب سلام واغتالوه سياسيا مع تقيّ الدين الصلح، سيعيدون الكرّة مع تمّام سلام وسيمنعونه من تشكيل حكومة تليق بلبنان الوطن؟