ليس بدّ من وضع الرحال برهة، والتمعن في مسيرة الإخوان المسلمين الطويلة، التي بدأت على مشارف العقد الثالث من القرن الماضي. إنها بحق مسيرة طويلة وشاقة. ولا يبلغ طول المسير غير ما جرّه الإخوان من عذاب ومحنة و حسرة في كل العقود، مع كل الأنظمة التي مروا بها، فتركوها وراء ظهورهم، لكنها لم تذرهم إلا لتسلمهم إلى نظام وليدٍ عتيد، يجرّهم في مسيرهم الطويل، ليذوقوا ألوان العذاب. بقي الإخوانيّ في جحيم الأنظمة المصرية المتعاقبة، لا يموت فيها ولا يحيا. فتفرعت من الإخوان، تحت وطأة العذاب الأليم، جماعات كثيرة لم تطق هول المأساة لتلجأ إلى آخر مُتشبَث (كما يتشبث بالقشة الغريقُ)، وهو العنف الذي كان بمثابة صرخة يائسة في وجه الغطرسة العسكرية والنظامية، لطالما ردّتهم على أعقابهم، فكانت المواجهة مع الأنظمة العسكرية العتيدة، بمثابة أخاديد نار رموا أنفسهم فيها دون استشفاف أفق واضح.

فما نفعت تلك المهلكة دعوتهم، ولا أنقذت المواجهة جلودهم من العذاب، فتكررت فيهم آيات الحرب في ساحات السلم، وظلوا طيلة العهود نزلاء السجون الدائمين، يستظلون بسياط جلّاديهم. فتحوّل السجن إلى وطنهم الكبير، واستصغرت مصر حولهم إلى قاعاتٍ، انحنت فيها شيبة من بقى، وتهاوت أجساد من ظل تحت المشانق. ومن نجى حمل جحيمه معه: ذكريات لا تفارق، وألمٌ لا فكاك منه مستقراً في قاع الروح. عشقتهم السجون، فنشأت بينهما علاقة حميمة، رغم مفارقة الكره، ولعل مكوثهم في أقبية الزنازين يفسر بعض الغربة التي آلفوها في سياساتهم، ولعلهم لم يتخلصوا من عبئ الطيف الذي لازمهم فيها: البطل المظلوم، وما أنبت فيهم ببطئ عقدة الإضطهاد. ولم يواز مكمن العُقدة، ما يوازنها، سوى عقدة التكبر والغرور، فاتصفوا بها في كل بلد وظلوا بها في كل نكد، دون أخذ عبرة مما سبق. وأكثر من ابتلى بغرورهم كان الإسلامييون من غير الإخوان، أو الذين فاصلوهم ففارقوهم دون وئام. وتلكم الصفات أسبغت عليهم لوناً كرّه الناس فيهم، وألبّهم عليهم في أحقاد صامتة مدفونة، وكثيرٌ منها زاملته حسرة كبيرة من الناس الذين أحبوا الإسلام، وحتى الإخوان، لكنهم اصطدموا بقساوة وتجاهل هذه الفئة، التي كانت على مقدرة أن تنجز ما يُبـهر الجميع. لكن الإخوان ما فتئوا أسارى دواخلهم التي مرنتها تجارب السجون والصراع مع السلطة، وتعليمات بالية وسطحية لمؤسس الجماعة، لا تعدو كونها إرشادات عابرة وبسيطة. وظلوا يلوذون في كل مصعدٍ ومهبط، وحالٍ وترحال بالأطياف التي لفـّـتهم في تلك الأقبية الموحشة. فطول البقاء صقــّل طول الملازمة، في حالٍ، ما عاد لهم بدونها قيام. وأمست هذه التجارب تفصح عن نفسها في مدونات الإخوان العالمية، كمنهج لهم في كل الأمصار والممالك.

واختصر الإخوان التاريخ، كل التاريخ، في أنفسهم. وكأنهم بلغوا ضفافه القصوى، فما عادت لهم بمعاينة تاريخ غيرهم حاجة. ولو طرقوا مليّاً وتأنّــوا جليّا، لما كرروا سنــّـة الأولين ولانتفعوا بتجارب السابقين. فمنذ ما يقارب قرناً لم يُربّوا على رؤوس أصابعهم ظِفراً، يحكّون به جلد ظهرهم، فكيف لهم حماية رئاسة تبغي المدافع والطائرات إذِ الحشود عجزت. وانصبّ جلّ اهتمامهم على نخبة المجتمع من أصحاب الحرف والمهن من أطباء ومهندسين ومثقفين، ظناً منهم أنهم بذلك سيكسبون المجتمع، إن لم يكن كلّه فمعظمه، وحينئذٍ سيتولون أمرهم دون عناء.

لكن ذلك بقي حُلماً، وفكرة رهن زمانها الأول حيث تأسست الجماعة. وتلك كانت قـــلّة دراية بنفوس الناس وحركة التاريخ ونظم المجتمعات. فما يجمعه مطربٌ أو راقصة من الحشود، يعجز عنه ألف طبيب ومهندس ومدرس. وحاجات الناس لم تقتصر يوما، في اتباع نجومهم وقدواتهم، في إعجاب و هوى. فمهما جمعتَ مِن نُخَبٍ، إن لم تملك خزينة وفيرة، وقوة مُهيبة، لاستحال عليك لمّ شمل القطيع والسير بهم في سبيل الأمان. لكن الإخوان أهدروا الكثير من طاقاتهم السياسية في هذا الميدان، وارتخت مشلولة أيديهم في الميادين الأخرى، حتى صاروا غرباء، لا ناقة لهم فيها ولا جمل. وارتقى الآخرون بسطوتهم و جبروتهم، من حيث بقي الإخوان صاغرين، لا يقوون على مقارعة قوتهم وبطشهم، سوى المزيد من الشكوى والصراخ والعويل، فيما كان الآخرون يبادلونهم بالطرش والتجاهل وضحكات تصطنع البراءة، لتزيد من محنة الإخوان وقهرهم. والآخرون من الليبراليين، والوطنيين، والقوميين، واليساريين، والناصريين، والعسكريين والهزازين الخصور امتطوا بمهارة ظهور التناقضات كلها، وانتعلوا الآيديولوجيات وباقاتها، وما استكانوا إلى الأحلام والقعود، بل أعدوا للإخوان ما استطاعوا من قوة وزيادة، وتركوا لهم بريق الشعار (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) يزينون به جدران بيوتهم ومكاتبهم، التي لم تزل تشبه مقرات الجمعيات الخيرية. وهؤلاء مارسوا العنف والجريمة المنظمة بلباقة شديدة، فبهت الإخوان من سحر إتيانها، وهم لا يقدرون على إيجاد دليل يدين خصومهم، متعجبين كيف تمر جرائمهم العظام بصمت، فيما إذا صرخ الإخواني من شدة الألم عدّ مساساً بالأمن الوطني. وفي ضفة الإخوان أمسى الظلم الذي حلّ بهم، كرفيق درب، يفتقر إلى لسان يصرخ به، بل الأنكى ظلت دماؤهم علامة إدانة عليهم لا لهم، كما حدث لمتظاهريهم أمام مقر الحرس الجمهوري، حيث قُـتل أكثر من خمسين نفساً منهم بتهمة الإرهاب، وبدل الإعتذار، تلقوا منشورات بفض الميادين لقاء تركهم أحراراً دون ملاحقة الأمن والجيش، على سيرة الأولين وتراث السابقين من الطغاة. إنه سيسي متـقمصاً مباركاً وعبدالناصراً وصلاح نصراً، هاضماً ذواتهم جميعاً، مستأسداً على من ارتضوا حياة الخراف. ولم يقدر الإخوان الحفاظ على الثورة التي عملوا من أجلها شأواً طويلا من الزمن، فبدل أن يلجموا ظالميهم وناهبي بلدهم، ولا أقول أن ينصبوا المشانق لهم، كما فعل روبسبير في أعقاب الثورة الفرنسية، أتاح الإخوان للنظام السابق ومعه رهط الأقليات الدينية والعلمانية، العودة على الدبابات والطائرات، ليوزع الموت والإعتقال بالقسطاس، على من ثاروا عليه في ما سمي بالربيع العربي. وهل تجدي الصدور العارية شيئا، وليس للقوم فارسٌ أو بندقية ولا خيلُ أو رباط، في كل هذا الحشد العسكري المهيب، الذي ما إن أطاح بمرسييهم حتى نزل عليهم إثنا عشر مليار دولار من خصوم خارجيين، لطالما ارتعدوا من فيضان الإخوان المرعب؟ ومنذ أزمنة بعيدة يقدّم الإخوان الالآف من الضحايا، لكن السنن لم تتغير فيهم.

ففي سوريا حصدوا جهنماً فوق الأرض، قبل ثلاثين عاما، من حافظ الأسد العلوي صاحب أقل من 5% من الشعب السوري، لكنه كان مالكاً 100% من الجيش والقوة، ودون أن يملك رصيدا تاريخيا كرصيد الإخوان، وهم اليوم يحصدون شرارات لهيب مستطير في مصر وخسروا سوريا حتى لو فازوا بها، لأن ولاية الفقيه لن تترك فيها شجرة مخضرة ولا عشباً رطبا. وفي كلتا الحالين، لا قوة لهم، ولم يعدوا أي قوة مُستطاعة من تلك التي نادوا بها دوما (وليست القوة في اقـتـناء رشاشة هنا وبندقية هناك بل في أن تكسب الجيش والشرطة والأمن). وما نَدَرَ عندهم كـَـثُرَ عند غيرهم. وكل ملايينهم التي ظلت في الميادين بصدور عارية، ولأيام الحر الطويلة مع دخول في شهر الصيام، تـتـبخر أصواتهم في الأثير لا آذان لها، وقد قُـفلت عليها مسبقاً قنوات الإعلام التي كانت تود إيصال صوتهم. تلك قسمة ضيزى، نعم، ولكن تلك هي فنون السياسة وآلاعيبها، وخطط السياسة وذكائها، التي لم يتقنها الإخوان يوما. فمن تحت عباءة الببلاوي، الذي كان يبصم بالعشرة لجمال مبارك في الأمس القريب، عادت بلاوي أنصار النظام السابق إلى السلطة من أوسع أبوابها، ومعهم مطاياهم من السلفية والأزهرية، متحالفين مع الأقباط الذين يفضلون الشيطان نفسه على أتـقى رجل مسلم، لا لعلّة في الرجل، بل لعلّة في هويته ودينه. وفي كل هذا لم يحسن الإخوان اللعبة ودخلوا السياسة بصدق نياتهم الساذجة، وغرورهم، وظنهم أنهم في أمان لأن الملايين من الشعب معهم. لكن القضاء والأمن والشرطة والجيش والحرس، كلّ أولئك بقوا على الدوام يشرأبون الأحقاد تعلوها إبتسامة هادئة ماكرة في وجه الإخوان، لِما بَيـّتَ القومُ من تدبيرٍ في ليلٍ مظلم، ساه الإخوان في دركه، أطاح برأسهم وأعاد بعلية قومهم إلى حيث أتت: السجون والزنازين التي ذاقت فيها الويلات. والأظلم من هذا أو ذاك هو، أن الدماء التي أهدرت من متظاهريهم لم تذهب سدى فحسب، بل وطبخت لهم على نار هادئة، إتهامات دقيقة بالتورط في القتل والتحريض عليه، قد تشل من قدرات تنظيمهم بمرور الأيام، حتى تضعف إرادتهم في مواصلة الإحتجاج مع تضييق على خناق ميادينهم، مِنْ قِـبَـلِ مَنْ يملكون القوة التي أعدوها ما استطاعوا وزيادة. هذا إن صارت الأمور على أذواق أهل القوة الذين نزلوا بكل ثقلهم المُطهّم، وبسرعة البرق، لأن ملايينهم التي غلبت عليها هوية تكوين ديني معين، مع لواحق الأحزاب المتعلمنة، لبثت في الساحات يوما أو بعض يوم، فيما الإخوان يرابطون بالصراخ والعويل أياما طوال، دون أن يطير لهم عصفور على شجر. إنها القوة التي تعدل الميزان وتقيم القسط. فمن لا يملك القوة، فلينصب لنفسه منصة تذكار، لعلّ سياح العالم يتذكرون هول ما مرّ به من عذاب في يوم من الأيام، على غرار الهنود الحمر في أمريكا، والمسلمين في الأندلس، والقرطاجيين في القرطاج، والأفارقة السود الذين تشتتوا في العبودية بين أمريكا وأوروبا.

ولن تقوم في مصر حكومة أكثرية، ولا ديموقراطية. والمليارات التي قيل أنها تصلهم من الخليج، فسيوزعها بينهم من كان ينهب قوت المصريين بالأمس. أما حسب من يُسمّون بالقيادات الشبابية، من كل هذا الهرج والمرج، هو التمتع بالجلوس على طاولات تجمعهم بكبار الشخصيات التي كانوا يرونها إلى أمس قريب على شاشات التلفزيون فقط، فيما اليوم ينتشون في مجدٍ فارغ الدخول إلى القصور، يتناكبون في جلبة مخجلة تشبه جلبة المراهقين في الوصول إلى معجبيهم. والغلابة التي هرعت إلى الميادين، أستُـقطب الكثير منهم للتمتع بنجوم الفن (وهم أشد الناس نقمة على الإخوان ونهجهم) الذين علقوا في أذهانهم دهراً طويلاً، سيعودون غدا إلى بيوتهم بخفي حنين يلوكون السباب، ويتغنون على فقرهم واحتياجهم في الظل الصامت، الذي لن تعرضه القنوات التي حرضتهم على مرسي ورهطه. والأسوأ من هذا كله هو الوقوع في الحرب وتمزيق مصر، تمهيدا لإنشاء كيان قبطي، يتحول إلى حاجز جغرافي وبشري بين مصر وإسرائيل.

وسيندم الإخوان على أخطائهم، ولن ينفعهم الندم حتى ولوا سكبوا الدموع الحمراء عليه، وهم يسكبونها الآن، لأن للسياسة قوانين وسنن، جعلت من بضع ملايين قلال من اليهود أسياد العالم، يضربون بعرض الحائط، كل الدول العربية والإسلامية مجتمعة. اليهود الذين لا يملكون نفطاً، يملكون أعتى الأسلحة الفتاكة في العالم، والعرب الذين يملكون بحار البترول، تذهب أموالهم هدرا على المُتع الهابطة، بينما تئن شعوبهم من الفقر والعوز والعجز والهلاك. فهل خطط الإخوان منذ عقودهم الطويلة، ليعدلوا كفة الميزان، ويستفيدوا من تجارب أنفسهم وغيرهم؟ دع الجواب لهم.