أثارت المقارنات التي عقدها الرئيس الأميركي باراك أوباما بين إرهاب "داعش" وإرهاب "الصليبيين" ردود أفعال رسمية وشعبية كبيرة، خصوصاً من خصومه الجمهوريين. قال أوباما في سياق مقارناته بين الإرهابَين، "أنّ البعض قد يعتقد بأن الأمر يقتصر على منطقة دون أخرى، ولكن الحقيقة غير ذلك"، مضيفاً "لنتذكر أنه خلال الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش (التي أقيمت للمسلمين في الأندلس) ارتكب البعض أفعالاً شنيعة بإسم المسيح، وفي بلدنا جرى استخدام المسيحية لتبرير العبودية وفرضت قوانين التمييز العنصري."
الأرجح أنّ أوباما أراد بهذا التصريح طمأنة العالمَين العربي والإسلامي، بأن الإسلام كدين سماوي بريء من "داعش"، ومن الخطأ الخلط بينهما، بإعتبار أن الإسلام مثله مثل كل الأديان الأخرى دين لله، فيما "داعش" هو تطرف وغلو وإرهاب لا دين له، مثله مثل تطرف أي جماعة دينية راديكالية في أي دين آخر. وعقده للمقارنة بين التطرفَين؛ تطرف "داعش" في حاضر الإسلام والمسلمين وتطرّف "الصليبيين" في ماضي الكنيسة والمسيحيين، ربما جاء في هذا الإطار. وهذا صحيح جداً. فالإرهاب إرهاب، والتطرف تطرف، والغلو غلوّ، أياً كان مصدره وسببه ودافعه.
فما صنعه "الصليبيون" من إرهاب ضد مخالفيهم، في تاريخ الإنجيل والكنيسة، سواء من المسيحيين أو من أتباع الديانات والعقائد الأخرى، لا يقل بشاعةً وفظاعةً من إرهاب "داعش" في حاضر القرآن والمسلمين.
لكنّ الفرق بين الماضي "الصليبي" هناك، والحاضر "الداعشي" ههنا، هو أن الأول انتهى إلى تاريخ مضى بلا رجعة، بسبب فصل عقلاء المسيحيين بين الدين الذي هو لله والدولة التي يجب أن تكون للجميع ومن الجميع وفوق الجميع (ما لله لله وما لقيصر لقيصر)، وفصل "دستور الله" بالتالي كدستور للسماء عن دستور الدولة كدستور للأرض، بينما الثاني لا يزال مستمراً مستغرقاً في حياة المسلمين بخاصة والعالم بعامة. والسبب هو كون الإسلام "ديناً ودولة"، ودفاع علماء المسلمين، معتدلين ومغالين، عن الإسلام في الدين كدولة، وعن الإسلام في الدولة كدين. وهذا الخلط أو المزج بين القانون الوضعي كدستور للدولة المدنية، والقانون الإلهي كدستور للدولة الدينية، هو عام يشمل جميع الفقهاء والعلماء المسلمين، من الخلف والسلف، من ماضي المسلمين وحاضرهم على حدٍّ سواء.
عليه فإنّ المشكلة ليست في "داعش" بإعتباره تنظيماً إرهابياً عابراً للحدود، وإنما هو في بعض نصوص أصول الشريعة الإسلامية نفسها، التي يتخذ منها هذا التنظيم مرجعاً نهائياً ووحيداً لآيديولوجيته.
فعلى الرغم من محاولات بعض الفقهاء والعلماء والشيوخ المسلمين وصف "داعش" بإعتباره تنظيماً مخالفاً للقيم الإسلامية والإنسانية وخارجاً على مقاصد الشريعة الإسلامية، كما جاء على لسان بعض علماء الأزهر، إلا أنهم فشلوا حتى الآن في تقديم قراءة فقهية شرعية واضحة ومقنعة تدين إرهاب التنظيم، بإعتباره تنظيماً "عدوّاً" للإسلام والإنسانية. علماً أن التنظيم يسند جميع أفعاله وممارساته و"دستور" دولته، إلى الإسلام وأصول شريعته. وفي آخر إرهابٍ له، نفذّ التنظيم جريمته بحق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، بإعدامه حرقاً، بناءً على فتوى شرعية لإبن تيمية المعروف "بشيخ الإسلام"، بإعتباره أحد أكبر أعمدة الفقه الإسلامي، متحدياً بذلك جميع الفقهاء المسلمين.
الواضح، هو أنّ فقهاء وعلماء وشيوخ المسلمين المعتدلين الذي لا يتوانَون في وصف التنظيم بأنه بعيد كلّ البعد عن مبادئ الدين الإسلامي، يتحاشون الدخول معه في "معارك" فقهية، أو مواجهات عقائدية، أو مجادلات حول الخلافة ودولتها الداعية إلى تطبيق الشريعة الإسلامية كدستور نهائي لها.
أوباما أصاب في عقده المقارنة بين إرهابين أو ظاهرتين إرهابيتين، إحداهما "صليبية" خرجت من العباءة المسيحية، وأخرى "داعشية" خرجت من العباءة الإسلامية، لكنه أخطأ في الوصف بين زمانَين متباعدَين جداً؛ واحدٌ ولى وسقط في الماضي، وآخر لا يزال يعيش ويقوم ويقعد في الحاضر بيننا.
الرئيس أخطأ في وجه من أوجه مقارنته، لأنه لم يفرّق في خطابه، بين الفكر المسيحي الذي فصّل بين الإنجيل ك"دستور للرّب"، والقانون الوضعي كدستور للدولة من جهة، والفكر الإسلامي الذي لا يزال يتمسك بفكرة "الخلافة" القائمة على الشريعة الإسلامية، بإعتبارها "دولة الله" وأوليائه على الأرض، من جهة أخرى.
لاشكّ أن لا فرق بين الإرهاب في "زمان داعش" والإرهاب في "زمان الصليبيين"، فكلاهما إرهاب بدافع ديني متطرف ضدإنساني. لكنّ الفرق لا بل كل الفرق هو بين "إنسان داعش" في كونه "إنساناً ذئباً لأخيه الإنسان"، لا يزال يعيش ويأكل ويشرب وينام ويفكّر ويصنع القتل والإرهاب بيننا، و"الإنسان الصليبي"، الذي انقرض واندثر وانتهى.
في الغرب والكنيسة والفكر المسيحي، مات الصليبيون وانتهت "الصليبية" من غير رجعة، بينما في الشرق والجامع والفكر الإسلامي، داعش لا يزال يعيش ويتعشعش ويزداد، وتتمدد وتتغوّل "الداعشية".
"الصليبيون" و"الصليبية" ماتوا وسقطوا في التاريخ إلى الأبد أمام العالم، بينما "الداعشيون" و"الداعشية" لا يزالون يعيشون و"يأخذون الكتاب بقوة" ويصعدون على أكتاف التاريخ، على مرأى العالم، ورغماً عن أنف كلّ العالمين.
حاكم ولاية لويزيانا بوبي جيندل الذي يأمل الترشح للإنتخابات الرئاسية القادمة عن الجمهوريين، كان محقّاً في سخريته من مقارنات الرئيس، مخاطباً إياه:
"سنتولى من جهتنا السيطرة على الحملات الصليبية، ولكن نتمنى أن تقوم من جهتك بالتركيز على التهديد القادم من التطرف الإسلامي"!
&
التعليقات